للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حرمة التكفير بالمعاصي]

قال المصنف رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.

] هذا المقطع فيه انتقال من مسألة القرآن إلى بعض مسائل الإيمان، يقول رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة) أهل القبلة هم أهل الصلاة المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا فذاك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا) رواه مسلم.

ولهذا يسمى أهل الإسلام (أهل الصلاة) ، وقد سمى بعض أهل العلم مؤلفاتهم به: كمقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، والمقصود بالمصلين: أهل القبلة، فأهل القبلة هم: أهل الصلاة، وهذا شعار على أهل الإسلام يشمل أهل الإسلام جميعهم: مبتدعهم وسنيهم، فكلهم يشتركون في هذا إلا من خرج عن فرق أهل السنة والجماعة الثلاث والسبعين فرقة فإنه ليس منهم.

يقول: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة) يعني: من المسلمين (بذنب ما لم يستحله) وهذه العبارة حقيقة فيها عدم اتساق؛ لأن فيها من الإطلاق ما لم يطوِ عليه أهل السنة والجماعة عقداً.

يقول: رحمه الله: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) الذنب هنا يشمل كل ذنب، وهل الشرك ذنب أو ليس ذنباً؟ وهل الكفر ذنب أو ليس ذنباً؟ ذنب، وهل الشرك والكفر يشترط في تكفير صاحبه الاستحلال؟ هل المشرك إذا سجد للصنم -مثلاً- أو الكافر الذي سب الله أو سب رسوله يلزم أن يستحل ذلك، أو يكفر سواء استحل أم لم يستحل؟

الجواب

يكفر سواء استحل أم لم يستحل.

فهذه العبارة فيها من الإطلاق ما يوهم، لكن مراد المؤلف بهذه العبارة: الرد على الخوارج والوعيدية من المعتزلة الذين يكفرون أهل الإيمان بمطلق الكبائر، وبمطلق المعاصي، ولا شك أن قولهم خطأ وضلال مبين، فإن بدعة الخوارج هي أول بدعة ظهرت في الإسلام، ولم يأت في السنة من التحذير والتنفير والتشديد في البدع كما جاء في بدعة الخوارج، فإنها من البدع التي توافرت النصوص على ذمها، وذم أهلها، وبيان سوء حالهم ومنقلبهم، فكانت أول بدعة ظهرت في المسلمين بدعة الخوارج، وهي: بدعة التكفير.

وهذه البدعة دائرة على أنهم يكفرون الناس بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنباً ولو لم يكن ذنباً، وهذه مسألة أشد يعني: أنهم لا يكفرون بالذنوب التي أجمعت الأمة عليها فقط، بل حتى الذنوب التي هي محل خلاف، أو قد تكون في نظر شخص أنها ذنب، وفي نظر آخر أنها ليست بذنب، فهم يكفرون بمطلق الذنوب، بل وبما يرونه ذنباً، ولو لم يكن كذلك، فقول المؤلف رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) فيه رد على هذه الفرقة الضالة، ومثلهم المعتزلة الذين قالوا: مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمان، لكنه لا يوصف بالكفر، ويكون في منزلة بين المنزلتين، وهذا القول إنما هو في الدنيا أما في الآخرة فإنهم يوافقون الخوارج في أن مرتكب الكبيرة في النار.

والمؤلف رحمه الله يبحث في الأسماء؛ لأنه يقول: (ولا نكفر) يعني: لا نثبت اسم الكفر، والأسماء هي: كافر، مسلم، عاصي، فاسق، هذه هي الأسماء، وأما الأحكام فهي: في الجنة أو في النار، وهل البحث الآن في الأسماء أو في الأحكام؟ البحث في الأسماء.

يقول: (ولا نكفر أحداً) أي: لا نثبت وصف الكفر واسم الكفر لأحد من أهل القبلة، (بذنب) أي: بسبب ذنب، فالباء هنا للسببية (ما لم يستحله) .

لكن هذه العبارة -كما ذكرنا- في إطلاقها نظر، فلابد أن تقيد، وأحسن منها ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية حيث قال في بيان عقد أهل السنة والجماعة: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك -يعني: أهل السنة والجماعة- لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، فقوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر) هذا يدل على عقد أهل السنة بالمطابقة.

أما ما ذكره المصنف هنا ففيه من الإطلاق والإجمال ما يُدخِل في المعنى نقصاً، وقد علق على هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله بتعليق جيد قال فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.

قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه كالزنا وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله خارجاً عن دينه.

أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي بالتفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسب ما جاء في الشرع المطهر، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار، وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا، وبالله التوفيق.

اهـ وهذا التعليق جيد يقيد ما في هذه العبارة من إطلاق حيث إن الشيخ رحمه الله فسر معنى الذنب في قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فقال: بذنب يرتكبه كالزنا وشرب والخمر والربا وعقوق الوالدين، يعني: من الذنوب المتفق عليها، من الذنوب التي يقع تكفير الخوارج لأصحابها، أما الذنوب التي هي كفر أصلاً كالشرك بالله، والسجود للأصنام، وسب الله، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالمصحف، والاستهزاء بآيات الله، وبدين الله، فهذه يكفر بفعلها ولا فرق بين مستحل وغير مستحل.

ومما تقيد به هذه العبارة -أيضاً- أن إطلاق العلماء لقولهم: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) المراد ما عدا الصلاة والزكاة والحج والصيام، فإنه قد وقع الخلاف بين العلماء في كفر تارك هذه الأركان، وأقوى ما في ذلك من الخلاف الخلاف في ترك الصلاة، فإن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ولو لم يجحد الإنسان وجوبها، مع أنه من جملة الذنوب، لكنه كفر، فقوله رحمه الله (بذنب) يشمل الذنوب التي هي مخالفات وارتكاب المنهيات، ويشمل -أيضاً- الذنوب التي هي ترك للواجبات.

لكن يستثنى من ترك الواجبات أركان الإسلام فإنه قد وقع خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله قيد العبارة هذه في بعض مؤلفاته وهي قوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج) فقيدها بما عدا الأصول، فإنهم مختلفون في كفر تارك الصلاة، ومختلفون في كفر تارك الزكاة، ومختلفون في كفر تارك الحج، ومختلفون في كفر تارك الصيام.

إذاً: هذه العبارة فيها مأخذ، أما قوله رحمه الله: (ما لم يستحله) فهذا قيد مهم في الذنوب كالزنا والخمر وما أشبه ذلك، فإن من استحل هذه الذنوب فهو كافر ولو لم يفعلها، يعني: من استحل الزنا وقال: الزنا حلال فإنه كافر ولو لم يزن، ولو كان أعف الناس.

ومن قال: الخمر ليست بحرام، فإنه كافر ولو لم يشربها، والمراد بقول المؤلف رحمه الله: (ما لم يستحله) : ما لم يكن هناك تأويل، فإذا استحله بالتأويل فهل يكفر أو لا يكفر؟ الجواب: لا يكفر؛ لأنه استحل ذنباً من الذنوب بالتأويل، كمن يستحل الربا في هذه الأوراق النقدية الآن، ويقول: لا يجري فيها الربا على مذهب المتقدمين من الفقهاء في جميع المذاهب، في مذهب الإمام أبي حنيفة، وفي مذهب مالك، وفي مذهب الشافعي، وفي مذهب أحمد، فيقول: هذه ليس فيها ربا، وعلى هذا فكل ما يجري من الربا ليس محرماً، فهذا فيه استحلال لصورة من صور الربا، لكن هل يكفر به صاحبه؟ الجواب: لا يكفر به صاحبه، لماذا؟ الجواب: لأن هذا متأول، والمسألة فيها خلاف قديم، فأول ما نشأت هذه الأوراق النقدية وقع فيها الخلاف بين العلماء، هل يجري فيها الربا؟ وهل تأخذ حكم النقدين أو لا تأخذ حكم النقدين؟ ففي مثل هذه الأمور ينبغي للمؤمن أن يتروى وألا يستعجل، فالاستحلال إذا كان مقترناً بتأويل فإنه لا يكفر صاحبه، لكن الواجب أن يبين له الحق، ولا تعجب فإنه قد جاء أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه -وهو من أهل بدر- استحل الخمر في زمن عمر بالتأويل، حيث ظن أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:٩٣] ظن أن هذه الآية تفيد إباحة الخمر، فشرب الخمر رضي الله عنه هو وجماعة معه، ظناً منهم أن هذا مباح، وأنه ليس عليهم حرج، فكتب إليه عمر، وجمع الصحابة وشاورهم، فرءوا أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.

فهؤلاء استحلوا محرماً، لكنهم استحلوه بالتأويل، ومع ذلك لم يكفرهم عمر، بل استتابهم رضي الله عنه، وبين لهم تحريم الخمر، ثم جلدهم على شربه، فعظم الأمر على قدامة رضي الله عنه، واشتد عليه ما وقع منه من استحلال ما حرم الله ورسوله حتى بلغ به الأمر أن يئس من رحمة الله، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:٣] فلا أدري أي سوء أتيت أعظم: استحلالك للخمر أم يأسك من رحمة الله؟! فبين له أن ما جرى منه خطأ، والله جل وعلا يقبل التوبة، وقال: فتب ولا تيئس من رحمة الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الضالون.

فالمهم أن استحلال المحرم -استحلال الذنب- بتأويل لا يكفر به صاحبه، وهذا شاهد قائم من عهد الصحابة رضي الله عنه في خلافة عمر الفاروق، ولذلك يا إخواني! ينبغي للمؤمن في مسألة التكفير أن يتروى، وألا يستعجل، وأن ينظ

<<  <  ج: ص:  >  >>