للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاستطاعة في التكليف]

يقول رحمه الله مبيناً فرعاً من فروع ومسائل القدر، وهو الاستطاعة: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به؛ فهي مع الفعل -أي: فعل الله- وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات؛ فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب] ، يشير المؤلف رحمه الله إلى اختلاف الناس في الاستطاعة، والاختلاف هنا بين فريقين، بين المعتزلة القدرية وبين الجبرية الجهمية في تعريف الاستطاعة، وهذا له صلة بمسألة هل يكلف الله جل وعلا الخلق بما لا يطيقون أو لا؟ ننظر إلى الاستطاعة ماهي؟ يقول رحمه الله: (الاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل وأما الاستطاعة) ثم ذكر نوع الفعل من الاستطاعة، فالاستطاعة نوعان: استطاعة سابقة للفعل، واستطاعة مقارنة للفعل، الاستطاعة السابقة للفعل هي التي أناط الله جل وعلا بها التكليف، وتعريفها: هي ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح، هذا تعريف الاستطاعة: ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح كالقيام في الصلاة، والصيام الواجب، والاستطاعة هنا أن يقدر الإنسان على فعل هذا دون أن يلحقه ضرر راجح، فإن لحقه ضرر راجح فهو غير مستطيع، هذه الاستطاعة هل هي سابقة للفعل أو ليست سابقة له؟ سابقة للفعل بلا إشكال؛ ولذلك هذا النوع من الاستطاعة لولاه لما حصل التكليف، فهو مناط التكليف، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب) ، يعني: بها يتعلق الأمر والنهي، والخطاب خطاب الشارع في الأمر والنهي، فهذا النوع به يتعلق أمر الله ونهيه، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:٩٧] ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فهذا النوع من الاستطاعة سابق للفعل، وبه يصح الأمر والنهي، وهو الذي يقر به القدرية، وينكره الجبريون، لماذا؟ لأنهم يقولون: لا قدرة للعبد على فعل شيء إلا ما أقدره الله عليه، فهم ينفون الاستطاعة؛ ولذلك فالجبرية وقعوا في الخلل في باب الأمر والنهي، فعطلوا الأمر والنهي، فعندهم لا قدرة للعبد ولا استطاعة، إنما الفعل كله لله، والعبد حركاته إنما هي كحركات المرتعش وكحركات الشجر وكنبض العروق لا اختيار له فيها ولا أثر، فهم أنكروا الاستطاعة السابقة للفعل.

والذي أقر به القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، هو النوع الثاني من الاستطاعة، وهي الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي بمعنى القدرة عليه، وهذا النوع يثبته الجبرية وتنفيه القدرية، فعندهم أن العبد لا يقدر، وعندهم أن هذه القدرة لا تدخل في تقدير الله جل وعلا، ولم يعلق الله بها شيء، أما الجبرية فإنهم يثبتون هذا النوع من الاستطاعة، والذي عليه جمهور السلف والخلف ممن تبع الكتاب والسنة إثبات النوعين من القدرة، إثبات القدرة السابقة للفعل، وهي المصححة للأمر والنهي، وهي التي يتعلق بها الخطاب أمراً ونهياً؛ والاستطاعة المقارنة للفعل، وبهذا تجتمع النصوص، ويبطل قول القدرية نفاة خلق الله لأفعال العباد، وقول الجبرية الذين قالوا: لا فعل للعبد ولا قدرة ولا مشيئة، وإنما هو كالشعرة والريشة في مهب الريح، لا اختيار له ولا قدرة، قال الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:١٠١] .

فهذه الآية والتي قبلها نفى الله جل وعلا الاستطاعة، فما هي الاستطاعة المنفية؟ هل الاستطاعة المنفية هي التي بمعنى القدرة على الفعل السابقة لوجوده؟

الجواب

لا، وعلى قول من فسر القدرة بالسابقة، والقدرة المقارنة فتكون الاستطاعة المنفية هنا هي القدرة المقارنة للفعل {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:١٠١] ، والآية الأخرى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] ، فالاستطاعة المنفية هي القدرة، يعني: ما كانوا يقدرون سمعاً وقت الاستماع، وما كانوا يستطيعون سمعاً وقت الاستماع، فنفى القدرة المقارنة لا القدرة التي يحصل بها التثبيت، هذا على قول من فصل في القدرة، وقول جمهور السلف وهو التفسير المشهور عند الأئمة: إن النفي في الآيتين ليس هو نفي القدرة التي يحصل بها التثبيت، ولا القدرة المقارنة، إنما فيه إثبات مشقة ذلك عليهم؛ لفساد قصودهم وإراداتهم وانحراف قلوبهم، فأصبحوا لما في نفوسهم من الفساد ولما في إراداتهم من الانحراف؛ لا يستطيعون سماع الحق، ولا إبصاره، ولا الأخذ به، وأما على قول من يقول بالقدرة المقارنة فإنه يفسرها بقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] .

ثم اعلم -بارك الله فيك- أن الأدلة دلت على هذين النوعين من الاستطاعة، وأن الاستطاعة التي تسبق الفعل هي التي يقترن بها التثبيت.

يقول المؤلف: (والاستطاعة التي يتعلق بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به) يعني: أنها ليست منه، إنما هي من الله عز وجل، فهو الذي وفقه إليه (فهي مع الفعل) يعني: مقارنة له، وهي المنفية في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:٢٠] ، (وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع) ، يعني: القدرة، (والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب) ، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا وهذا، ثم قال: [وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]] أي: إلا ما تسعه وتقدره وتطيقه، فالتكليف المنفي هنا هو التكليف السابق للفعل وليس المقارن له.

<<  <  ج: ص:  >  >>