للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[انتفاع الميت بعمل الحي، والخلاف في بعض الأعمال]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات، ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله تعالى طرفة عين فقد كفر، وصار من أهل الحين، والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى] .

قوله رحمه الله: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات] .

هذه المسألة صلتها بكتب الفروع ألصق منها بكتب الاعتقاد، لكن ذكرها المؤلف رحمه الله رداً على من قال بأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء بشيء، وهذا تكذيب لما أجمعت عليه الأمة من وصول نفع بعض الأعمال إلى الأموات؛ فإن الأمة أجمعت على أن الدعاء ينتفع به المدعو له حياً أو ميتاً وهو ليس من سعيه ولا من عمله إنما من عمل غيره، وقد وقع الخلاف في بعض الأعمال هل ينتفع بها الأموات أو لا، كالصدقات وأشباهها.

فذكر المؤلف لهذه المسألة في كتب الاعتقاد لبيان ما يعتقده أهل السنة والجماعة من انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم، رداً على من نفى ذلك مطلقاً من القدرية وغيرهم، حيث قالوا: لا ينتفع الإنسان بعمل غيره مطلقاً.

وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من ثبوت أصل الانتفاع، أما تفاصيل الانتفاع فإن في ذلك خلافاً بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن الميت لا ينتفع بغير الدعاء، وأما العمل فإنه لا ينتفع منه الميت بل هو لصاحبه؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها نفي ملك الإنسان لعمل غيره، ولكن الصحيح في هذه المسألة الفروعية أن الإنسان ينتفع بعمل غيره دعاءً وصلاة وزكاة وحجاً، وغير ذلك من أعمال البر، وليس في الآية ما يدل على امتناع النفع، وقد جاء ما يدل على انتفاع الإنسان بصدقة غيره وبحجه وبصومه، وكذلك بقية العبادات لعدم المانع؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه المسائل كلها سئل فأجاب بالانتفاع والجواز، فدل على أن كل أعمال البر كذلك، فإنه ينتفع بها الميت وتصل إليه، وأما آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] فإنها لا تدل على عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره، إنما تدل على أن الإنسان لا يملك إلا سعي نفسه، ثم إذا ملك سعي نفسه فإن له أن يتصرف فيه بما شاء كهبته لغيره، فالآية ليس فيها قطع انتفاع الإنسان بعمل غيره، بل فيها أنه لا يملك إلا سعي نفسه ملكاً وانتفاعاً، فإذا وهب ملكه ونفعه لغيره فذلك له، ولا يمنع من ذلك، ودلت الأدلة على جواز هذا.

وقوله: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات] خص الأموات بالانتفاع مع أن الانتفاع في الدعاء يكون كذلك للأحياء؛ لأن الغالب في ذلك أن يكون للأموات، ولأن الصدقات تكون في الغالب للأموات، والسؤال الذي وجه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورد عن الصدقة للميت، وكذلك الحج، وكذلك الصوم، فالنصوص وردت في الأموات، ولا يمنع أن ينتفع الأحياء من ذلك، لكن ذكر ذلك لأنه محل الخلاف، ثم إن الخلاف في الأحياء أشد بين أهل العلم، فمن العلماء من يرى أن الحي لا ينتفع بعمل غيره مطلقاً، وإن كان يجيز أن ينتفع الميت بذلك، والصحيح أن كل عمل صالح يفعله الإنسان ويهديه إلى حي أو ميت فإنه يصل إليه، وليس في النصوص ما يدل على المنع، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) فهذا ليس فيه دليل على ما ذهب إليه بعض العلماء من أن العمل لا يصل إلى الميت، وهو مذهب بعض العلماء من المتقدمين وغيرهم، ومن أهل السنة وغيرهم؛ لأن الحديث فيه انقطاع عمل الإنسان نفسه، وليس فيه قطع انتفاعه بعمل غيره، بل في الحديث ما يشير إلى انتفاعه بعمل غيره في قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، فدل ذلك على أنه ينتفع بعمل غيره، لكن هل يوجه الناس إلى إهداء الأعمال وإهداء ثوابها إلى الأموات؟

الجواب

لا، فالأصل في العمل أن يكون للإنسان ماعدا الدعاء؛ فإن الدعاء ينتفع منه الطرفان، فينتفع منه الداعي وينتفع منه المدعو له؛ ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، أما العمل من الحج أو العمرة أو الصدقة فالأولى بها الإنسان نفسه، ولا يعني هذا أنه لا يجوز الوهب، بل يجوز لكن الجواز غير الأفضل الذي يوجه إليه الناس، فالذي يوجه إليه الناس أن يعملوا لأنفسهم، وأن يدعوا لغيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) .

<<  <  ج: ص:  >  >>