للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأمثلة على الإرادة الشرعية والكونية]

ولنضرب مثالاً للإرادة الشرعية من كلام الله عز وجل: فمن أمثلة الإرادة الشرعية قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] .

هل الإرادة هنا شرعية أو كونية؟ شرعية: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٦] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:٢٨] .

كل هذه إرادات شرعية غير لازمة الوقوع، قد لا يتوب الله عز وجل على بعض من عصى، إنما هو يريد التوبة إرادة شرعية يحبها ويرضاها، لكن قد لا تقع من العبد.

مثال النوع الثاني من الإرادة، وهي الإرادة الكونية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] .

ومثاله أيضاً قول الله تعالى فيما ذكره عن نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:٣٤] .

إرادة الإغواء هنا هل هي مما يحبه الله ويرضاه؟ لا.

إنما هي من مقتضى حكمته جل وعلا، فهي من الإرادة الكونية والذين لا يفرقون بين نوعي الإرادة يجعلون جميع الإرادة متعلقة بالمحبة، فكل ما أراده الله سبحانه وتعالى فهو محبوب له، وكل ما وقع فهو محبوب له.

وعلى هذا فإن الزنا محبوب له أعوذ بالله! لماذا؟! لأنه أراده ووقع، ولو لم يرده ويحبه لما وقع، ولكنهم ضلوا لعدم التمييز بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وهؤلاء الذين يقولون: إن كل ما يقع محبوب له وهم الجبرية الجهمية، يقابلهم القدرية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يرد الزنا من الجاهلين، فهو واقع من غير إرادته جل وعلا، وهؤلاء كذبوا على الله جل وعلا، فإنه لا يقع شيء في الكون إلا بإرادته، فما من حركة ولا سكون ولا ذهاب ولا إياب ولا قيام ولا قعود إلا بإرادة الله جل وعلا ولا معصية ولا طاعة إلا بإرادته جل وعلا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] فكل ما في الكون هو بإرادته جل وعلا، لكن هؤلاء قالوا: إنه ليس مراداً لله؛ لأنه ليس محبوباً له، والله لا يريد إلا ما يحب، فأخرجوا المعاصي عن إرادة الله جل وعلا.

ولذلك قال أحدهم كلمةً ظاهرها التعظيم لله عز وجل وباطنها التعطيل لصفة الإرادة فقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.

فهذه كلمة جيدة، فلما فهمها العالم السلفي قال له: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء؛ لأن الأول مراده أن الزنا والسرقة وما يكون من المخالفات إنما هي واقعة من غير إرادة الله، ولذلك هو منزه عن إرادة الفحشاء، فرد عليه العالم السلفي فقال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء.

فأيهما أبلغ تعظيماً؟ اللفظ الثاني لا إشكال فيه؛ لأن فيه تمام الملك والتصرف من رب العالمين، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء جل وعلا، وهو المطابق لقوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) .

المهم أن هذه القضية الواضحة التي دل عليها الكتاب والسنة من أجلى ما يكون لمن سلم من الشبهات والخيارات الفاسدة، والظنون الكاذبة هي ملتبسة على أصحاب الأهواء من أهل الكلام، حيث جعلوا الإرادة بنوعيها نوعاً واحداً، ففسروا الإرادة بالمحبة، فما شاءه الله فهو محبوب له، وهذا يستوي فيه القدرية والجبرية، فالجبرية يوسعون ويقولون: كل ما وقع فهو محبوب له، ويقابلهم القدرية الذين يخرجون عن إرادة الله عز وجل المعاصي، فيقولون: المعاصي ليست مرادة له سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>