للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على خصماء الله في القدر من قدرية وجبرية]

ثم قال رحمه الله: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم] هذا فيه تأكيد ما تقدم من أنه عالم بهم قبل الخلق، لم يخف عليه جل وعلا شيء قبل أن يخلقهم، بل هو المحيط بهم العالم بهم قبل خلقهم.

ثم قال: [وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم] هذا تأكيد لما تقدم من إثبات علم الله عز وجل بالخلق قبل أن يخلقهم، فالله جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقهم.

لما قال المؤلف رحمه الله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) ، فهل مراده من هذا الكلام مجرد تأكيد ما تقدم؟

الجواب

إنه أكد ما تقدم، وأجاب عن قول خصماء الله في القدر، فإن قوله رحمه الله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله رد على خصماء الله في القدر.

وخصماء الله في القدر فريقان: الفريق الأول: هم الذين نفوا تقدير الله للأشياء قبل وجودها، فنفوا القضاء والقدر، وهم غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، وإن الأمر أنف، وهذه بدعة ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وردها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هذه البدعة كانت في الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في القدر، كما جاء في حديث أبي هريرة: (أن المشركين جاءوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] ) فإن هذا جواب على من خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الله عز وجل للأشياء قبل وقوعها.

إذاًَ: الفريق الأول الذين خاصموا الله في القدر: هم غلاة القدرية الذين نفوا القضاء والقدر وعطلوه، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يقدر شيئاً.

الفريق الثاني: هم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وهم الجبرية الذين قالوا: إنه ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، وعلى هذا لا يلام العاصي على معصيته، ولا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله، ومعصية العاصي بقدر الله، فعلى هذا جعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع، وهذا قد ذكره الله جل وعلا عن الكفار في مواضع من كتابه، كقول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:١٤٨] ، فاحتجوا على تعطيل الطاعة والتوحيد بالقدر.

ومن المواضع التي أبطل الله جل وعلا فيها الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧] ، هناك كان الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد، وهنا الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة، وبقي الاحتجاج بالقدر على المعصية وهو في قول إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦] ، فجعل فعله ومعصيته بسبب إغواء الله عز وجل، فنسبها إلى الله جل وعلا، واحتج بها على استمراره في الغي والضلال.

فتبين أنه لا حجة في القدر على ترك التوحيد، ولا حجة في القدر على إتيان المعصية، ولا حجة في القدر على ترك الطاعة، بل لله الحجة البالغة على كل أحد، فإنه ما من أحد إلا وله الاختيار الكامل في فعل ما شاء وترك ما شاء، وهذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله عز وجل كما سيأتي.

والمراد أن كلام المؤلف رحمه الله في هذا الموضع فيه رد على فرقتين ضالتين في باب القضاء والقدر، وهما: غلاة القدرية والجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر، والذين نفوا القدر وعطلوه، قال رحمه الله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الرد على الفريق الثاني ممن خاصم الله في القدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>