للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[طلب العلم المحظور يورث الشك والحيرة]

يقول رحمه الله: (فمن رام علم ما حُظر عنه علمه) والذي حظر عنا علمه هو: علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات، (فكل من رام -أي: طلب- علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه) أي: فيما جاء الخبر عنه؛ لأن هناك ما مُنعنا من النظر فيه وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أُخبرنا به وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة، فما أخبرنا به فالواجب فيه التسليم، وما منعنا من النظر فيه وهو الكيفيات فالواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب.

(فمن رام علم ما حظر عنه علمه) وهو في الكيفيات، (ولم يقنع بالتسليم فهمه) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حجبه مرامه -أي: مطلوبه- عن خالص التوحيد) ، ولا إشكال أنه يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك، ولا يكون صافي المعرفة وصحيح الإيمان.

فلا يصح إيمانه ولا تتم معرفته بربه ولا يحصل صافي التوحيد عنده؛ لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجر على توحيد الإلهية فيفضي إلى نقص فيه ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه ينقص من توحيده بربه سبحانه وتعالى بقدر ذلك، ولذلك لا يُعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصوراً عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو في توحيد الربوبية ولابد.

يقول رحمه الله: (فيتذبذب) هذا بيان الثمرة في ذلك، فالفاء هنا للتفريع، أي: لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه، وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص، فثمرة ذلك هي كما قال المؤلف: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) فهو في أمر مريج، وهذا من الذين قال الله جل وعلا فيهم: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥] أي: أمر مضطرب، وهذا شأن كل من كذب بالحق قليلاً أو كثيراً، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم فيتذبذبون بين الكفر والإيمان، وبين التصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار.

قال رحمه الله: (موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً) وهذا مطابق لحال من لم يسلموا للنصوص القياد فإنهم لم يحصلوا علماً، ولم يدركوا مطلوباً ولا معرفة بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين، ومن قرأ كلامهم ورأى مقال من سلك طريق التشبيه علم صدق ذلك، فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال وما ذكره الغزالي صاحب إحياء علوم الدين مما وجدوه في هذا الطريق من العطب والضلال، وأنهم لم يسلموا ولم يطمئنوا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع، ويكفي في هذا ما أنشده الرازي حيث قال: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال والعالمين المراد بهم: من ترك طريق أهل السنة والجماعة ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولاً، ولذلك قال: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا يعني: طوال هذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة لم نستفد سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا، والعجيب أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلَّف ما ينفيه في آخره، بل بعضهم يقول: ونفي هذا كفر.

ثم تجده في آخر المؤلَّف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل نفيه كفراً أو ينفي ما جعل إثباته كفراً، وهذا غاية الاضطراب نسأل الله السلامة والعافية، وهذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية.

<<  <  ج: ص:  >  >>