للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على من أنكر فتنة القبر وعذابه]

يقول رحمه الله في بيان الفتنة: (وفتنة القبر حق) ، أي: ثابتة لا مجال لإنكارها وردها، ومن أنكرها من المعتزلة وغيرهم إنما أنكروها لكون عقولهم قصرت عن إدراك هذه الفتنة العظيمة التي تكون في القبور، وقالوا أيضاً: إننا نفتح القبر ولا نرى ملائكة تسأل، ولا بدناً يُقعد، ولا نراه يضرب بمرزبة من حديد وما أشبه ذلك مما جاء به الخبر في فتنة القبر.

والجواب عن هذا أن يقال: إن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الإقعاد والسؤال إنما هو في الأصل للروح لا للبدن، وذلك أن دار البرزخ التي بين الدنيا والآخرة يقع الحكم فيها على الأرواح لا على الأبدان، وما يكون مما ذكر بلوغه للبدن أو ظهر أثره حساً على الأبدان إنما هو تبع، وإلا فالأصل أن أحكام دار البرزخ تتعلق بالأرواح ولا تتعلق بالأبدان، فالبدن لا يظهر عليه إقعاد، ولا يظهر عليه أثر الضرب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يجب ولم يوفق في فتنة الملكين، فإنهما كما في حديث أنس في الصحيحين: (يضربانه بمرزبة بين أذنيه أو بمطرقة من حديد يبن أذنيه فيصيح فيسمعه كل أحد إلا الثقلين) فهذا إنما يكون على الروح لا على البدن.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأيضاً ابن القيم أنه قد يظهر أثر ذلك على البدن، وقد يقوى اتصال الروح بالبدن، فيقعد البدن، ولا تقل: كيف؟ فإن هذا أمر لا ندركه نحن، فإننا لو فتحنا القبر أو وضعنا جهاز تصوير بعد الدفن فلن نجد بدناً يقعد، ولا ملكاً يأتي؛ لأن البدن متعلق بالروح، والآن الروح يحصل لها ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتقال والسؤال وما إلى ذلك، ولا يظهر على البدن أثر، كما أن الإنسان إذا نام ورأى في المنام أنه يدخل في عراك وقتال تجده يتأثر ويستيقظ فزعاً، وقد يجد أثر هذا على بدنه وهو في منام؛ لأن الروح مرتبطة بالجسد، والحكم في الدنيا الأصل أنه على الأجساد، فكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه، فالأصل فيه أنه واقع على الأرواح وما يكون للأبدان إنما هو تابع، وهكذا ما يكون من نعيم الروح في الدنيا فهو تابع لنعيم البدن، أما الآخرة فيقترن الروح بالبدن اقتراناً تاماً في التعذيب والتنعيم، أي: في العذاب والنعيم، فيكون عليهما جميعاً.

فالذين أنكروا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ومن فتنة القبر، ومن سؤال منكر ونكير وما أشبه ذلك، إنما اعتمدوا في الإنكار على العقل والحس، وقالوا: لا ندرك ذلك ولا نشاهده.

فنقول: نعم، أما العقل فلا مجال لإعماله فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون من أمر الغيب؛ لأنه بأي عقل يوزن خبر الله وخبر رسوله؟ كما قال الإمام مالك: ليت شعري بأي عقل نزن الكتاب والسنة؟! وأما الحس فنقول: إن الحكم ليس على الأبدان حتى تعترضوا، وإنما الحكم في دار البرزخ على الأرواح لا الأبدان.

<<  <  ج: ص:  >  >>