للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القرآن كلمات وحروف وألفاظ من الله]

يقول رحمه الله في الاستدلال: (فلما نفى الله عنه أنه شعر) ، أي: نفى عن القرآن أنه شعر، (وأثبته قرآناً لم يبق شبهة) ، الشبهة هي: عارض يعتري القلب ويحول بينه وبين رؤية الحق ومعرفته وإدراكه.

يقول رحمه الله: (لم يبق شبهة لذي لب) ، أي: لصاحب عقل، وصاحب بصر (في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم) .

(الذي هو كلمات) ، أي: أنه مكون من كلمات وحروف وآيات؛ (لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر) ، ولولا أن هذا القرآن الذي يخبر الله أنه منه وأنه قوله، ونفى أن يكون قول البشر لو لم يكن محل الخلاف هو القرآن لما نفى أنه شعر، فلما نفى أنه شعر وبين أنه ليس بقول البشر علم أنه قول رب العالمين، كما قال الله جل وعلا: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] ، في ما ساقه المؤلف من الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله جل وعلا.

قوله: (وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:٢٣] ) ، ذكر المؤلف دليلاً آخر من الأدلة الدالة على أن القرآن كلام الله، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} ، أي: في شك واشتباه وعدم بصيرة، (فأتوا بسورة من مثله) ، فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بسورة من مثل ما أنزل الله جل وعلا على رسوله، فـ (من) هنا بيانية، أي: فأتوا بسورة مثل إحدى سور القرآن.

وهذا يبين لنا أن التحدي لهؤلاء كان على مراتب: فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بمثل القرآن، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم انتهى التحدي إلى أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يأتوا، وأقل سورة في القرآن عدد آياتها ثلاث، وهي سورة الكوثر، وهذا يدل على عظيم إعجاز هذا القرآن، وأنه من البيان والفصاحة والقوة في الألفاظ والمعاني، وأنه في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى بما لا يمكن أن يدرك شأوه وأن يبلغ حده أبلغ البلغاء وأعظم الفصحاء، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم يميز المؤمن بين كلامه وبين كلام رب العالمين، وترى الفرق واضحاً بيناً بين كلام الله عز وجل وبين كلام الذي أوتي جوامع الكلم، فكيف بغيره؟! فيتميز للإنسان ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام وما جاء به كلام رب العالمين.

يقول رحمه الله: (ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل) ، هذا فيه بيان أن القرآن ألفاظه ومعانيه من كلام رب العالمين، فإن الله جل وعلا تحداهم ليس فقط أن يأتوا بألفاظ مثل ألفاظ القرآن، بل أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله في ألفاظه ومعانيه، فإن إعجاز القرآن لا يقتصر على إعجاز الألفاظ، بل إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وهذا هو الذي وقع عليه التحدي.

قوله: (قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس:١٥] ) ، أي: واضحات لا لبس فيها لا في ألفاظها ولا معانيها، ( {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس:١٥] ) ، أي: قال الذين لا يخافون، أو لا يطمعون؛ فالرجاء يطلق على الخوف الطمع، فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس:١٥] ، أي: الذين لا يطمعون في لقائنا، أو الذين لا يخافون لقاءنا، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:١١٠] ، أي: من كان يخاف لقاء ربه، أو من كان يطمع في لقاء ربه، فالرجاء يطلق على الخوف والطمع، فهو من المعاني المشتركة، يقول: ( {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:١٥] ) ، يقولون هذا في معرض الاحتجاج والاعتراض على القرآن وعلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} ، أي: أحضر لنا قرآناً غير هذا، أو بدله، أي: غير فيه بحذف بعضه أو بالزيادة عليه أو ما أشبه ذلك من أنواع التبديل والتغيير، فجاء الجواب من رب العالمين: ( {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:١٥] ) ، ولو كان من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان هو الذي تكلم به وأنشأه، أو كان قول جبريل، لكان يمكن أن يبدل أو أن يغير، لكن الله عز وجل أخبره بأنه لا يمكنه أن يبدله أو أن يأتي بغيره؛ لأنه رسول رب العالمين، ولذلك قال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي: ما أتبع إلا ما أوحاه الله إلي، فإذا كان رسولاً متبعاً فليس إليه تبديل القرآن ولا الإتيان بغيره.

قال رحمه الله: (فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم) بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس:١٥] ؛ فالقرآن هو كلام الله عز وجل الذي تلاه رسوله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء.

(وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٩] ) : الضمير (هو) يعود إلى القرآن، فهو آيات بينات، أي: واضحات في صدور الذين أوتوا العلم، وهذه الآية لها معنيان: الأول: أن القرآن آيات واضحات في صدور الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم، فليس فيه التباس ولا اشتباه.

الثاني: أنه آيات محفوظات في صدور الذين أوتوا العلم، ولذلك قال: (في صدور الذين أوتوا العلم) .

فقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يحتمل أنه يريد: أنه بين في صدورهم، ويعلمون أنه الحق ويدركون معانيه، ويحتمل أنه: محفوظ في صدورهم، ويحتمل أنه يريد الأمرين، وهو الصواب، أي: أن القرآن في صدور الذين أوتوا العلم حفظاً وفهماً، فكلما علا نصيب الإنسان من فهم كتاب الله عز وجل كلما كان داخلاً في هذه الآية وكان حقيقاً بها.

فقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، لا يقتصر على حفظه بل على فهمه وهو الأهم ففهم القرآن أهم من حفظ بعض حروفه كما نقل ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حيث قالا: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) ، وليس هذا دعوة إلى أن يترك الإنسان حفظ القرآن، لكنه دعوة إلى أن يجتهد في فهم معناه، وإدراك معانيه، كاجتهاده في حفظه أو أشد، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الصحابة كانت عنايتهم الفائقة في فهم الكتاب، وكان الذي يحفظ الكتاب منهم هم القلة، فالأكثرون كانوا يعتنون بمعاني كلام الله عز وجل، ولهم عناية بالحفظ، لكن كانت عنايتهم بالفهم أعظم؛ لأن الفهم هو المقصود الأول من هذا الكلام الذي أوحاه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>