للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء]

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان] .

مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المؤلفين قدّم لهذا الباب أحاديث ترد الإنسان في قوته وغناه وضعفه وفقره إلى الله، ومن ذلك ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا شباب خشّع، وبهائم رتّع، وأطفال رضّع لصب عليكم العذاب صباً) .

وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى في السهام بين المجاهدين في غزوة بدر، فقال سعد: أتجعل من أبلى كمن ليس كذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك! وهل تنصرون إلا بضعفائكم) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وهل ترزقون إلا بضعفائكم ودعواتهم) ، وهكذا رواية أخرى: (لولا شيبان ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم في الخلاء رتّع لصب عليكم العذاب صباً) ، فقد يغيث الله الناس لا لذواتهم، ولكن لما حولهم، ولبعض من معهم من المخبتين إلى الله، ومن الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ونحن نعلم قصة هاجر وابنها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف سقاها الله في ذلك المكان، وفي ذلك الوقت الحرج.

ويذكرون أيضاً أن نبي الله سليمان خرج يستسقي، ثم رجع من الطريق، فقيل له: لم رجعت؟ قال: قد سقيتم بدعوة غيركم، قالوا: ما رأينا أحداً! قال: رأيت نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك فاسقنا.

فرجع نبي الله سليمان وقال: سقيتم بدعوة غيركم.

فكيف رأى النملة وهو يمشي في الطريق؟ وكيف سمع نداءها؟ لقد قص لنا القرآن ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا} [النمل:١٨] خطبة طويلة عريضة بلسان المقال، أو بلسان الحال، فهذه معجزة خاصة به عليه السلام لا نعلم كيفيتها ولا يعلم ذلك إلا الله.

فقد يرحم الله العباد بالحيوان، وقد يرحم الله العباد بالأطفال الرضع، وبالشيوخ الركع، أي: بمن يظهر العبادة والضعف إلى الله، وقد تكون رحمته لمخلوقاته الأخرى من بهائم وحشرات وغيرها.

قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً) .

الخروج يكون من الداخل إلى الخارج فمن أين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والى أين خرج؟ قالوا: خرج إلى المصلى، فخرج بالناس إلى الفضاء يستسقي ربه، والحديث يبين لنا كيفية الحالة التي خرج بها صلى الله عليه وسلم في طلب السقيا؛ لأن الهمزة والسين والتاء للطلب، فـ (استسقى) أي: طلب السقيا، كما أن (استغفر) معناها: طلب المغفرة والغفران، وهكذا.

فنخرج إلى الله تعالى تاركين كل ما لدينا، مظهرين الفاقة والحاجة، رافعين أكف الضراعة إلى الله، قائلين: ها نحن جئناك يا رب لا حول لنا ولا قوة، ولا مال لنا ولا غنى إلا بك، نسألك الغيث والرحمة، ولا نخرج في عروض الخيل وأبهة السلاح وزينة الثياب، بل نخرج متواضعين منكسرين.

وبعض المحتالين في السؤال قد يكون عنده مال وفير، وهو معافى في بدنه، لكنه لما يخرج يتكفف الناس يبحث له عن ثياب قديمة، أو يتصنع عاهة؛ ليخدع الناس بمنظره وعاهته، مدعياً الحاجة والفاقة.

فنحن نخرج للاستسقاء في حالة الضراعة والذلة والتواضع وإظهار الفاقة والحاجة للمولى عز وجل، فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (متواضعاً) التواضع حساً ومعنىً ألا يكون رافعاً رأسه، ولا مصعراً خده، ولا ضارباً للأرض بقدمه، وإنما يمشي في سكينة وتواضع.

قال: (متبذلاً) .

يوجد جناس بين التبذل والبذلة، فالبذلة: الهيئة -أي: الثوب الخلق- وقوله: (متبذلاً) معناه لابس لها، أي: خرج في ثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له حلة، وكان له لباس خاص يلبسه يوم العيد، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه وجد حلة جميلة تباع عند باب المسجد، فجاء بها إلى رسول الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: اشتر هذه تلبسها يوم العيد، وتتجمل بها عند الوفود -لأن هذه أماكن تحتاج إلى إظهار الغنى والسعة وشكر النعمة- فنظر فيها صلى الله عليه وسلم وقال: (يلبس هذه -هذه الحلة التي جئتني بها- من لا خلاق له، وبعد قليل أرسلها إلى عمر، فجاء عمر يجري قائلاً: يا رسول الله! أنت قلت فيها: (يلبسها من لا خلاق له) ثم تعطينيها! فقال رسول الله: لا يا عمر! ما أرسلتها إليك لتلبسها) أي: استنتاجك وتقسيمك -يا عمر - ناقص، فمن الممكن أن تلبسها، ومن الممكن أن تلبسها غيرك، أو تهديها لإنسان آخر، أو تتخذها فراشاً، فإن لاستعمالها أوجهاً متعددة.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على تخصيص حلة للعيد والوفود، ولكنه اعترض على نوع قدم إليه، وقد كانت له البردة، وكان يخطب فيها أيام العيد؛ لأنها أيام زينة، وأيام إظهار النعمة شكراً لله على عطائه، وكان يلبسها عند مقابلة الوفود حتى يكون في مظهر الغني الموسع عليه، لا في مظهر الفاقة فيطمع الناس فيه.

والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، ولهذا ينبغي على كل من شارك في صلاة الاستسقاء أن يخرج إليها في حالة تواضع في مشيته ومنطقه في الطريق متبذلاً في ثيابه، ولا يخرج بثياب الفخر والعز، والتواضع صفة خُلقية، والتخشع صفة خَلقية، فقوله: (متخشعاً) معناه أنه ليس سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، أي: في خطوات متقاربة، وليس كمن يركض إلى غنيمة أو جهاد ويظهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، بل يمشي بهدوء ورفق وتؤدة.

وقوله: (متضرعاً) : يستوي أن يكون بكلماته أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر.

قال ابن عباس: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) .

وحديث ابن عباس هذا أصل من أصول مباحث صلاة الاستسقاء.

فحديث ابن عباس أول حديث جاء به المؤلف في مشروعية صلاة الاستسقاء، وفيه أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ويقولون في التشبيه: ليس من الضروري أن يشبه المشبهُ المشبَهَ به في كل الصور، فقد يقال: فلان كالنخلة، والنخلة طويلة، ولها جذع خشن، وعلى رأسها الجريد، وتثمر البلح ثم الرطب، فهل هو كالنخلة بهذه الصفات كلها، أو أنه كالنخلة في بعض صفاتها؟! فحين نقول: فلان كالنخلة.

أي: في الطول.

ولا يعني ذلك المشابهة في الثمرة والجريد والجذع الخشن، بل يكفي أن يشبهها في صفة واحدة.

وقوله: (كما يصلي في العيد) صلاة العيد ركعتان، فيها تكبيرات وخطبة، ففي أي صفة من تلك الصفات شابهت.

منهم من قال: كصلاة العيد في العدد، أي: ركعتان، ومنهم من قال بالتكبيرات، أي: بتكبيرات كتكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قال: في الخطبة، فلها خطبة كصلاة العيد.

والآخرون يقولون: كصلاة العيد في الركعات فقط، وحذفوا الصفات الأخرى، وسيأتي إن شاء الله بيان أنواع الكيفية والخلاف فيها، وبيان الجائز من ذلك كله إن شاء الله.