للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرمة لبس الذكور للحرير]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير) رواه أبو داود، وأصله في البخاري] .

أبو عامر هذا غير أبي موسى الأشعري، فهو رجل آخر.

قوله: (يستحلون) استحل الشيء: جعله حلالاً، فهل هو حلال في ذاته أو أنه محرم؟ لو كان حلالاً في ذاته لما قيل: استحله؛ لأنه حلال، وتحليل الحلال تحصيل حاصل، فهو حرام، ولكنهم يستحلونه، وهل يستحلونه تكذيباً للتحريم الثابت عن رسول الله، أو يستحلون استعماله مع اعتقادهم بتحريمه؟ إن من استحل شيئاً محرماً ورد به دليل التحريم فإنه يكون قد رد حكم الله الوارد على لسان رسول الله، ومن حرم ما هو حلال بالضرورة أو استحل ما هو محرم بالضرورة فهو مرتد عن الدين، ولكن من اعتقد أنه حرام، واستعمله فهذه تكون معصية، ولا يخرجه العصيان عن الإسلام.

وهذا اللفظ استدل به الجمهور على أن هذا الذي يستحله أقوام أصله محرم، فما هو موضوع الاستحلال؟ قال هنا: (الحر) بالحاء والراء، والحر: هو الفرج، فالمعنى يستحلون الفروج بالزنا، والحرير باللباس.

وأكثر علماء الحديث يروونه بالحاء والراء المهملتين -أي: ليس فيها نقط-، وبعضهم يرويه معجماً بالنقط، والحاء إذا كتب عليها نقطة صارت خاءً، والراء إذا صارت عليها نقطة صارت زاياً، فروي (الحر) و (الخز) ، والكتابة واحدة، ولكن الخلاف بكون الحرفين منقوطين أو بدون نقط.

والجمهور على أنه الخز؛ لأنه متناسب مع ذكر الحرير، والآخرون يقولون: إذا حرم الحرير فالخز نوع منه، فيكون تكراراً، فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر.

وجاء في بعض النصوص الأخرى: (يستحلون الحر والمعازف) ، واستحلال الفروج مع المعازف متجانس؛ لأنه من باب اللهو والاستمتاع المحرم، فعلى أنه الحر لا يدخل معنا في البحث، وهذا راجع إلى باب حد الزنا، وإذا كان (الخز) ، فما الفرق بين الخز وبين الحرير؟ وكيف ذكر معه؟ قالوا: الحرير ما كان من دودة الحرير، فهو إنتاج دودة معروفة باسم الحرير بصفة خاصة، والخزّ: هو وبر دابة يكون ناعماً كالحرير، وبعضهم قال: الخز: ما كان فيه حرير مخلوط مع غيره.

والزرقاني في شرح هذا الحديث -على رواية الخز بالخاء والزاي- ذكر عن مالك أنه روى عن خمسة وعشرين صحابياً أنهم كانوا يلبسون الخز، وكذا عن خمسة عشر من التابعين، فيكون (الخز) موضع الخلاف، و (الحرير) موضع الاتفاق، ويكون النهي عن الخز للكراهية، والنهي عن الحرير للتحريم، وتحقيق المناط أنه إن كان الثوب مخلوطاً بالحرير فإنه يبقى فيه جزء من المنهي عنه، فهو يحمل جزءاً من النهي، لكن لا يصل إلى حد التحريم؛ لأنه ليس خالصاً من الجنس الذي دخله التحريم والنهي عنه لذاته.