للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سماحة الشريعة الإسلامية]

المؤلف هنا -رحمه الله- بدأ الوضوء بأمر غريب، ألا وهو أمر السواك، وهل السواك نظافة أيضاً أم عبادة؟ وهل هو سنة مستقلة، أم من سنن الوضوء؟ وكيف يكون السواك ومتى ولماذا؟ وما هي فضائله؟ وما هي آلته؟ هذه كلها أبحاث مستوفاة في كتب الحديث، وأوسع ما وجدت إلى الآن في ذلك مؤلف لـ ابن دقيق العيد، وهو كتاب: (الإمام شرح الإلمام) ، وهو مخطوط إلى الآن.

والسواك يطلق على المصدر العملي، وعلى الآلة التي يستعمل بها، والحديث هنا يحتمل المعنى المصدري العملي أكثر من اسم الآلة، فالمعنى: لأمرتهم بأن يسوكوا أفواههم؛ لأن الغرض في الوضوء هو أثر السواك في الفم، وجاءت أحاديث بعض العلماء فهم منها أنه للنظافة؛ لأن من أوقاته: عند القيام من النوم، وعند الوضوء، وعند القيام للصلاة، وعند طول الصمت، وعند شدة الجوع، وعند كثرة الكلام، فهذه أوقات يذكرون استحباب استعمال السواك عندها.

وجاءت النصوص في الندب إلى السواك، سواءٌ مع الوضوء أم مع الصلاة أم مطلقاً عن هذه الأوقات، فجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت: ماذا كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت؟ قالت: (كان أول ما يبدأ به السواك) ، وليس هناك وضوء ولا صلاة.

وأما الحديث هنا: (لولا أن أشق على أمتي) فإن (لولا) حرف امتناع لوجود، فيمتنع جوابها لوجود مانعه، تقول: لولا وجود زيد لهلك عمرو، فامتنع هلاك عمرو لوجود زيد، وكذلك قوله: (ولولا أن أشق لأمرت) ، فامتنع الأمر لوجود المشقة، وكونه لم يحصل الأمر لم يلغ السواك، فالذي لم يحصل هو الإيجاب الذي يترتب عليه حصول المشقة، فبقي ما بعد المشقة وبعد الوجوب، وهو الندب، وكأن الحديث في عمومه يقول: السواك مطلوب، ولولا المشقة لأوجبته عليكم، فقال: (لولا أن أشق) ، فأسند فعل المشقة إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل هو الذي يأتي بالأحكام من عنده، فيشق على الناس أو يخفف؟ قالوا: نعم، له حق التشريع مستقلاً، وهو كما وصفه سبحانه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] .

ومن الأمثلة في تشريعه صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله: حينما بين سبحانه وتعالى المحرمات في النكاح فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:٢٣] فأضاف إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تنكح المرأة مع عمتها ولا مع خالتها) ، فالقرآن ما جاء بهذا، ولكن جاء به صلى الله عليه وسلم.

ولذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:٣١] فالله أعطاه حق التشريع، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:٧] وسواء أتانا به من عند الله أو أتانا به من عنده فقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:٣] ، فقوله: (لولا أن أشق) أي: بما أعطاه الله، سواءٌ أكان وحياً مكتوباً أم وحياً إلهاماً.

يقولون: أصل المشقة من (الشق) ، فعندما تمشي في أرض مشققة يصعب عليك أن تتفادى الخطأ فيها من كثرة شقوقها، فإذا ما كانت ملتئمة سهل المشي عليها، فكذلك المشقة، فكأنك تجاهد تلك الشقوق في الأرض حينما تسير عليها، والمشقة هي ما يصعب على الإنسان، ولهذا يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال وأعظم مناقب العرب ومفاخرهم في الكرم والشجاعة، وكلا الأمرين فيه مشقة؛ لأن الجواد فقير، كما قيل: لا تنكري عطل الكريم من الغنى فالسيل حرب للمكان العالي فالكرماء لا يبقى عندهم شيء؛ لأن ما بيده لغيره، والإقدام قتال، فإذا أقدم في الجيش بالشجاعة قتل، وكلاهما فيه مشقة.

وهو صلوات الله وسلامه عليه في منهجه في التشريع ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ لأن هذه الشريعة السمحة ما جاءت مؤقتة لنتحملها وقتاً قليلاً ونصبر عليها، وإنما جاءت أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا كان الأمر كذلك فلما قيل: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.

ومن هنا -كما قال الفقهاء-: كانت (المشقة تجلب التيسير) ، فكل ما سمعت أو رأيت من مشقة في تكليف شرعي تجد بجانبها الرخصة والتخفيف.

ففي الوضوء إذا شق على إنسان استعمال الماء خفف عنه واستعمل التيمم، وإذا شق على إنسان القيام في الصلاة خفف عنه وجلس، والصيام إذا شق على إنسان مريض أو مسافر خفف عنه، كما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] ، وهكذا الحج على المستطيع، والجهاد، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:٦١] .

فلعدم وجود الأمر صار السواك مندوباً، ولو أمر صلى الله عليه وسلم لكان واجباً، ومن هنا يقول العلماء: الأمر يقتضي الوجوب؛ فإنه بين هنا أنه لولا المشقة لأمر، إذن الأمر يقتضي الفعل ولو جلب المشقة، لكنه لم يأمر دفعاً للمشقة، فبقي على الندب.