للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المنهج العملي أنجح طريق في التعليم]

قثال: [وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء.

] عثمان هو: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... ) ، وابن تيمية رحمه الله لما سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس قال: ليس لها أصل من فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة لأدائها، والآن يؤذن المؤذن وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم يؤذن بعد ذلك بين يدي الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس ليصلوا فيها ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن طالب العلم إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت العلاقة بينهم، ولن يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون: هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم عذراً -وهي الطريقة والحكمة والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت الصلاة، والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة راشد، فأصبح له حكم المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فاعتبره رحمه الله من تشريع الخلفاء، وعذر العامة في ذلك.

بينما بعض تلامذته حينما سئل عن هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل من حمار أهله، فانظر إلى الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا أسمي هذا سياسة الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة.

والذي يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس! هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا يحتاج إلى عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد الطريقة المثلى -وهي الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال: انظروا وتوضأ لهم على النحو الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) .

وهكذا كان السلف يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض الصحابة يأتي إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟ فيصلي لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ بالسمع؛ لأن هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله التعليم العملي، فقد صعد المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر، ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل القهقرى -وهو محافظ على استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد فرجة، وسجد في أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .

وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا وإنما حج وقال: (خذوا عني مناسككم) مع أنه أيضاً في الفتوى كان كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر الفعلي عنه هو الأصل.

وهكذا نجد المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا يعلمون الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً وتأسياً بالمسلمين التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون يفعلون مثلهم.

وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى عنه يشرع في تعليم هؤلاء القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً.

ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي فإنه يأتي ويحاكيه في الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في صلاته لا يعرف القبلة من شرق أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا لا يدرك ولا يحسن، ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية.

وما دمنا بصدد هذا الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما: كنت أدرّس في معهد الأحساء، وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم هذه الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف تذهب وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من جهد مع الطلاب ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت: الرسول صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها أغنتني عن تكرار الكلام وإعادته.

وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي ولا أرى ماذا يفعل ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله لك حق، فقدمت واحداً من الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف، وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت إليها بعد ذلك طيلة العام الدراسي.

الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند الطيور، فلي قصة لا أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا أوردها، ولكن ما دام أنها في سبيل التعليم فلا بأس بذلك.

كنت آلف الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت الفراخ تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في ضحوة النهار إذا بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار، وهو منخفض عن الغرفة حوالي عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز، وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون خلفها كما تمشي ثلة من الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور على أرض الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت الدفء من حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت إلى عتبة الغرفة وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل.

فوقفت عند عتبة الباب من الداخل تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند الدخول، وبقي واحد حاول أن يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية قليلاً، فنزلت مرة أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض مختلف مع العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها، ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز.

وأنا خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل الدرجة، فنقص قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل وتقفز على هذه البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة، فيأتي فرخها بسلامته، ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به مع بقية الفراخ.

فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟ فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله، لكن الدجاجة لا تفعل ذلك.

فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد أبناءنا الصغار حينما يقلدون الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما هي الصلاة، فلا يستقبل قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء.

فهذا المنهج العملي يجمع عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى التعليم.