للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من سيرة جعفر رضي الله عنه]

وهذا الحديث يعيدنا إلى السيرة النبوية، الحديث يقول: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنهم قد أتاهم ما يشغلهم) وذلك حينما جاء نعي جعفر، نعي أي: الإعلام بموته، وذلك أن جعفر، وهو: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة.

لقد نعي الكثير إلى رسول الله، واستشهد العديد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في أحد أو في بدر أو في غيرها، ولم نسمع مثل هذا القول (اصنعوا لآل فلان طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، وجاء هذا في جعفر خصوصاً، ولم أجد جواباً على هذا الخصوص، ولكن على كل مسلم أن يرجع إلى حياة جعفر، ومن هو جعفر؟ وما هي أعماله؟ لعل في سيرته ما يكون شبه الجواب، أو ما يسكن النفس إلى هذا الأمر.

من هو جعفر؟ أولاً: قوله: (اصنعوا لآل جعفر) الآل والأهل بمعنى، وهم عشيرة الإنسان، لكن يقال: الآل للشخص ذي المنزلة الرفيعة في الدنيا، ويقال: الأهل لكل إنسان من أي طبقات المجتمع.

إذاً: الآل تطلق في أعالي طبقات المجتمع، ولا تكون للطبقات النازلة، وهنا جعفر هو ابن أبي طالب، وأخو علي رضي الله تعالى عنهما، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد هاجر الهجرتين، وأسلم سابع سبعة، ونذكر من سيرته من ما رواه علي رضي الله تعالى عنه يقول: (كنت أنا ورسول الله نصلي -أي خفية-، فطلع علينا أبو طالب، ويتبعه جعفر؛ فرآنا نصلي، فإذا أبو طالب يقول لـ جعفر: انزل فصلِّ بجناح ابن عمك -أي بجانبه- فلما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، التفت إلى جعفر وقال: (وصلك الله بجناحين في الجنة بما وصلت ابن عمك) ، وقال لعمه: انزل صلِّ معنا، فأجابه بالجواب الذي مات عليه) فكان جعفر رضي الله تعالى عنه من أول حياته -كما كان علي رضي الله تعالى عنه- مع رسول الله، وهناك يقول أبو طالب: والله! إني لأعلم يا بن أخي أنك على الحق، ولكني كذا وكذا.

فمن بادئ الأمر اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وكان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في منعة عمه من أن يصيبه الناس، فلما توفي عمه، وكذلك خديجة، واشتد الأمر على أصحابه وعليه صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: (إن في الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، يمكن أن تكونوا بجواره؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً) فهاجر جعفر إلى الحبشة، وكان لـ جعفر رضي الله تعالى عنه موقف مشهود في بلاط الملك، حينما نزلوا بأرض الحبشة، ووقعت وقعة بدر، وأصيب من المشركين ما أصيب، قالوا: نأخذ ثأرنا ممن هم في الحبشة، وأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة بهدايا للنجاشي، وأخذوا معهم هدايا لبطارقته أي بطارقة الملك في بلاطه، وأعطوا كل بطريق هديته، وقالوا: نحن جئنا الملك نطلبه أولئك الفتية الذين خرجوا من دين قومهم، ولم يدخلوا في دين ملككم، فإذا كلمناه فصدقونا، ومروه بأن يردهم على أهلهم.

قالوا: نفعل.

فلما دخل عمرو بن العاص ورفيقه، وقال: ما جاء بك يا عمرو؟! وكان صديقه من قبل، قال: جئتك بالهدايا، ثم قال: إن فتية سفهاء خرجوا من دين آبائهم، وقد أرسلني قومهم إليك لتردهم إليهم؛ لأنهم خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دينك.

فقال البطريق: نعم أيها الملك رُدَّهم، فإن قومهم أعلم بأمرهم؛ فغضب الملك، وقال: لا.

والله لا أردهم؛ حتى أستحضرهم وأسألهم ما الذي هم عليه، فدعاهم.

يقولون: ما اشتد علينا أمرٌ كذلك اليوم؛ لأنا سمعنا بمجيء عمرو بن العاص وهو من الدهاة، فحضروا عند الملك، فسألهم ما هذا الدين الجديد الذي دخلتموه وتركتم دين آبائكم، ولم تدخلوا في غيره من اليهودية ولا النصرانية.

كان جعفر رضي الله تعالى عنه لما اجتمعوا عند طلب الملك، قد قال لأصحابه: أنا خطيبكم اليوم عند الملك، فقام جعفر وقال: [أيها الملك! إنا كنا في جاهلية جهلاء، يأكل قوينا ضعيفنا، لا نحل حلالاً ولا نحرم حراماً، ونفعل كذا، ونأتي كذا، ونشرب كذا -وأخذ يذكر مساوئ الجاهلية كلها- حتى أكرمنا الله وبعث فينا رجلاً منا نعرف نشأته، ومولده، وصدقه وأمانته، فأمرنا أن نعبد الله وحده -أي بدل الأصنام- وأمرنا بالصدق، وبصلة الأرحام، وبكذا، وكذا، وكذا] ، فلما سمع الملك ذلك أعجب بهذا، ثم قال: أنتم السيوح، أي: سيحوا في الأرض لا يسبكم أحد إلا عوقب.

ثم قال: أيها القوم! لا حاجة لي في هداياكم، أو أنه انصرف إلى عمرو وقال: يا عمرو! ويحك هذا أمر صفته كذا وكذا، فخرج عمرو وصاحبه من عند الملك بخفي حنين -كما قيل- فـ عمرو قال: والله لأستأصلن شأفتهم، فرجع من الغد إلى الملك، وقال: أيها الملك! أتدري أنهم يقولون في عيسى أنه عبدٌ، عيسى معبود الملك، أو ثالث ثلاثة، أو ابن الله، فدعاهم مرة أخرى فاجتمعوا وقالوا: لماذا دعانا مرة أخرى؟ ماذا تقولون له إن سألكم عن عيسى؟ قال: والله ما نقول إلا ما قاله الله، وليكن ما يكون بعد ذلك، فجاءوا، وسأل أيضاً وتكلم جعفر رضي الله تعالى عنه.

فقال الملك: هل عندكم شيء مما جاء به هذا النبي؟ قال: نعم، وقرأ عليه {كهيعص} [مريم:١] إلخ.

ثم قال: ما تقول في عيسى؟ ما يقول نبيكم في عيسى؟ قال: كما قال الله: عبد الله، ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول العذراء وروح منه.

فألقى النجاشي إلى الأرض ورفع عوداً صغيراً بين أنامله -وكان البطارقة موجودين ناشرين صحفهم أي: الأناجيل - قال: والله ما زاد عيسى ولا نقص على ما قال صاحبكم، ولا مثل هذا العود.

فخار البطارقة، فقال: سواء عليكم تخورون أو لا تخورون، هذا هو الحق.

ثم قال لجلسائه: ردوا عليهم هداياهم، والله ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد عليَّ الملك، ولا أطاع الناس فيَّ، فلن آخذ الرشوة في هؤلاء، ولن أطيع الناس فيهم.

وقوله: ما أخذ الله الرشوة عليَّ في رد ملكي، يقولون في تاريخه: كان أبوه ملكاً على الحبشة، وكان له أخ، وأبو النجاشي ليس له ولد إلا هذا، وأخوه له عشرة أولاد، فقال أهل الحبشة: إن هذا الملك ليس له إلا ولدٌ واحد، فإذا مات وتولى ولده ومات ولده انفلّ أمر الحبشة وضاعت، فلنقتل هذا الملك، وننصب أخاه؛ حتى إذا كان ملكا توارث الملك من أبنائه عشرة أبناء ينتظم أمر الحبشة، ويظل مدة طويلة، ففعلوا، ونصبوا أخاه.

ثم إن النجاشي هذا كان فطناً ذكيا، استسلم للأمر، ولكنه تداخل مع عمه في سياسة الملك، حتى غلب على أمر عمه بالسياسة، فلا يصدر شيئاً ولا يفعل شيئاً إلا بالرجوع إلى هذا النجاشي، فنظر أهل الحبشة وقالوا: والله لقد تحكم أو سيطر على الملك، نخشى فيما بعد أن الملك ينصبه علينا ملكاً، وقد علم أنا قتلنا أباه فينتقم منا، فنأتي إلى الملك.

فأتوه وقالوا: إما أن تقتله حتى لا ينتقم منا فيما بعد، وإما إن تخرجه عنا.

فقال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، لا، أنا أبعده عنكم، فأخرجوه إلى السوق، وجاء تاجر وباعوه -كما تقول القصة- بستمائة درهم.

ثم خرج عم النجاشي -الذي هو الملك الحالي- في يوم مطير شديد وفيه عواصف، ففي خروجه نزلت صاعقة وأحرقته، ثم نصب أحد أبنائه، وتولى الملك، فليس فيهم من يصلح لإدارة الملك، فرجعوا واجتمعوا وقالوا: والله لن ينتظم أمر الحبشة إلا على ذاك الذي بعتموه، فأدركوه.

وكان التاجر الذي اشتراه قد ألقاه في سفينة من أجل أن يرحله، فأسرعوا وأدركوا التاجر بسفينته، وفيه هذا الغلام، ثم رجعوا به فنصبوه ملكاً عليهم، وجاء التاجر الذي كان اشتراه، وقال: أعطوني حقي؟ قالوا: ليس لك شيء، قال: والله لتعطوني حقي، أو لأرفع أمري إلى الملك، فأتى إلى الملك، وقال: أيها الملك! تاجر اشترى غلاماً، والذين باعوه استلموا الثمن، ثم إذا بهم أخذوا الغلام من المشتري، ولم يدفعوا إليه القيمة.

قال: والله! إما أن يدفعوا لك القيمة، ويسلموا العبد يداً بيد للمشتري يذهب به، فهناك قالوا: ندفع القيمة.

وهذا معنى قوله: ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد علي ملكي؛ لأن ملكه لما قتل أبوه كان هو أحق بالملك، ولا أطاع الناس فيَّ فآخذ الرشوة فيكم، أو أطيع الناس فيكم، اذهبوا فأنتم السيوح.

وهكذا كانت قضية جعفر في بلاط النجاشي؛ أعلن عن الإسلام، وصرح للملك بما قال الله في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبقي المسلمون هناك إلى فتح خيبر.

ووفد جعفر رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستقبله صلى الله عليه وسلم، وقبله بين عينيه، وقال (والله! لا أدري بأيهما أشد فرحاً بمقدمك أم بفتح خيبر؟) وذكروا مناقب كثيرة بأنه صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أنت أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً) ، وكانوا يقولون: ما ركب النعل، ولا احتذى النعال، من يشبه رسول الله بعد جعفر.

كان أكرم بني هاشم، وكان أشجعهم، ثم كان موقفه الذي استشهد فيه، وجاء فيه النعي، وجاء فيه هذا الخبر، ألا وهو إمرته ثالث ثلاثة في غزوة مؤتة.