للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استشهاد جعفر رضي الله عنه]

(بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن ملوك الغساسنة على حدود الشام يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس، فاجتمع له ثلاثة آلاف مقاتل، فأمَّر عليهم ثلاثة زيد بن حارثة حب رسول الله، وجعفر ابن عمه، وعبد الله بن رواحة، وقال: إن أصيب زيد فالأمير جعفر، وإن أصيب جعفر فالأمير ابن رواحة، وإن أصيب ابن رواحة؛ فليختر المسلمون رجلاً منهم) وخرجوا في يوم الجمعة، ومضوا إلى الشام، فلما وصلوا إلى معان هناك جاءهم خبر من العيون التي أرسلوها بأن ملوك الغساسنة جمعوا مائة ألف ليردوهم، واستنجدوا بالروم بمائة ألف أيضاً، فاجتمع مائتا ألفٍ من الروم ومن العرب المتنصرة ومن تبعهم.

هناك توقف الأمراء الثلاثة؛ لفرق ما بين العددين: ثلاثة آلاف مقابل مائتي ألف، وإذا نظرنا إلى العدد الشرعي في أول الأمر، وإلى ما جاءت الرخصة بعده، نجد النسبة بعيدةً جداً؛ لأن الشرع أو النص القرآني الكريم يقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:٦٥] يعني: الواحد بكم؟ بعشرة، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال:٦٥] وبعد ذلك: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:٦٦] .

{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:٦٦] أو مائة يغلبوا مائتين.

لو جئنا في هذا الموقف لوجدنا النسبة بين ثلاثة آلاف ومائتي ألف تزيد على واحد إلى ستين رجلاً، مع وفرة العدد والعدة عند العدو، ومع طول المسافة وثقل المشقة، ومع قرب ديار العدو؛ هناك تشاور الأمراء الثلاثة، ولهذا في نظري أن مؤتة تشبه بدراً، وقد سميها بدر الشام؛ لأن فيها من المواقف ما يشابه بدراً من جوانب شتى.

تشاور الأمراء فيما بينهم، فبعضهم قال: نبقى في معان، ونخبر رسول الله بالموقف والعدد، إما أن يمدنا بمدد من عنده، وإما أن يأمرنا بما يراه.

فقام عبد الله بن رواحة وتكلم بما يشجع القوم: والله! ما قاتلنا في بدر بعدد ولا بعدة، وإنما قاتلنا بهذا الدين الذي نقاتل عنه، وذكر أشياء عن الشهادة ورغب فيها، فسمع ذلك زيد وهو الأمير الأول، فوافق على أن يقابلوا العدو.

ومشوا إلى مؤتة، والتقى الفريقان: ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، واستمر القتال ستة أيام، وهم يصابرون مائتي ألف مقاتل على تلك الحالة، وفي اليوم السابع بعد الجهد وبعد المشقة استشهد زيد.

ثم أخذ الراية جعفر، فحينما أخذ الراية قطعت يمينه فأخذها بيساره، فلما قطعت يساره ضمها بعضديه، فقطع العضدان وسقط اللواء، فقتل جعفر، وقد كان على فرسه، فنزل عنها وترجل وعقرها، وقيل: أول من عقر في الإسلام هو جعفر؛ لأن الخيل تكاثفت عليه لم يعد لفرسه مجال أن يجول في أرض المعركة، فنزل يقاتل مترجلاً، وقد وجد في جسده قرابة سبعين طعنة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح ورمية سهم، وقيل: جاء رجلٌ وشقه نصفين، وسقط اللواء في الأرض، فأخذه عبد الله بن رواحة فأصيب، فأخذها خالد.

وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في يومها، وصعد المنبر، وخطب الناس وقال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة وسكت، فاستاء الأنصار وقالوا: لعله وقع من ابن رواحة ما يؤذيهم، فأعاد الكلام أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله يفتح الله على يديه، وكان الذي أخذها خالد بن الوليد) .

وهنا يرى بعض المؤرخين أن خالداً انحاز بالمسلمين وانسحب، والبعض الآخر يقول كما يرجح ابن كثير: لقد انتصر المسلمون على الكفار؛ لأن خالداً لما أخذ الراية جاء في الليل، وأرسل سرية من الجيش إلى خارج المعسكر، وأمرهم إذا طلعت الشمس، وبدأ الالتحام أن يقدموا وينزلوا إلى المعركة مباشرة، وجعل الميمنة ميسرة، والمقدمة مؤخرة، وغير في تشكيل الجيش، فلما بدأت المعركة رأى الروم ما لم يروه من قبل، وجاء هؤلاء، فظن الروم أن المسلمين قد أتاهم مدد، وقد كانوا قبل ذلك عاجزين عنهم وهم قلة، فكيف بهم إذا جاءهم المدد؛ فبدءوا يتلفتون، ونصر الله المسلمين عليهم.

هنا لما أصيب جعفر، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه لما قطعت يداه، وعضداه، قال (لقد أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة، يرتع في الجنة حيث يشاء) .

وذكروا أخباراً عديدة: منها ما يذكر ابن عساكر من أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً فرفع رأسه وقال: وعليكم السلام، وقال: هذا جبريل ومعهم جعفر ذهبوا يبشرون أهل بيشة بالأمطار.

وبيشة بلدة في اليمن إلى غير ذلك من الأخبار عن جعفر، ولذا لقب بـ جعفر الطيار؛ لأن له جناحين يطير بهما حيث شاء.

فإذا كان الأمر كذلك وهذا هو جعفر الذي عقر فرسه في أرض المعركة، وترجل وقاتل، واحتمل فوق السبعين طعنة، ثم شق نصفين، وهو لم يتأخر ولم يتردد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأمراء الثلاثة على أسرة من ذهب في الجنة.

يقول: ورأى في سرير عبد الله بن رواحة وفي سرير زيد إزوراراً في صدورهما إلا جعفر ليس في سريره إزورار، فسئل عن ذلك قال: لما تقدموا باللواء كان عندهم غضاضة من الموت إلا جعفر، أقبل عليه بكل شجاعة وجرأة، وعلى هذا لما عاد المسلمون من مؤتة خرج صلى الله عليه وسلم يتلقاهم، كان أبناء جعفر مع من خرجوا مع المسلمين، فوجدهم رسول الله فأخذهم إليه، وتذكر زوجة جعفر في أخبار أخرى بأن الرسول أتاها في البيت، وكانت تجهز طعاماً، فأستوصاها بأبناء جعفر خيراً.

فقالت: هل سمعت عن جعفر شيئاً يا رسول الله؟! فأخبرها أنه قد أصيب.