للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصدقة بغير المال]

من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي الأموال واليسار، ففي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة، فجاء رجل بدنانير، وجاء رجل بدراهم، وجاء رجل بثياب، وجاء رجل بتمر، وجاء رجل بقبضة دقيق، وجاء رجل وقال: يا رسول الله! ليس عندي ما أتصدق به، ولكني تصدقت بعرضي على كل من اغتابني أو سبني، فلما جاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله! لقد تصدق رجل منكم بصدقة عمت جميع الناس!) ، ليس عنده مال، لكن تصدق بأن سامح وعفا وصفح عن كل من اغتابه؛ لأنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة، فهو تصدق بهذا الحق على صاحبه، من باب قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:١٣٤] .

إذاً: الصدقة لا يتقاصر عنها إنسان، فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء، قال الناظم: بث الجميل ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ وليس معنى الفقر هنا: فقير المسكين الذي ليس عنده شيء، وإنما الفقر الاحتياج، فأنت -مثلاً- تفتقر إلى خيط تخيط به خرقاً في ثوبك، أو تفتقر إلى إبرة ليست عندك، وجيبك مملوء نقوداً، لكن عندك الثوب مشقوق، والفلوس لا تخيط مخيطة للثوب، وصاحبك عنده إبرة، وأنت مفتقرٌ إلى إبرته.

إذاً: فكل ما سد فقراً، ولو إبرة تخيطُ بها ثوباً، ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو محمودُ، يحمدك صاحب الخرق على أنك أعطيته الإبرة، وهكذا.

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة) ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك) .

وقوله: (فرسن شاة) ، هي ما دون الرسغ من يدها، وقيل: هو عظم قليل اللحم، والمقصود المبالغة في الحث على الإهداء ولو بالشيء اليسير، وخصَّ النساء بالخطاب لأنه يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءتها المسكينة وهي تأكل عنباً، فأخذت حبة وأعطتها إياها، فأخذت المسكينة تقلبها مستقلة إياها، فقالت: انظري كم فيها من ذرة! والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:٧] .

إذاً: باب المعروف واسع، وليس له حدٌ، وفي استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً، وقد جاء حديث أعم من هذا: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) ، فحتى البشاشة في وجه أخيك تلقاه بوجهٍ طلق؛ صدقة، هل هناك أحد يعجز عن أن يبش في وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة، أو يلقي السلام؟ فكل هذا من باب صدقة التطوع