للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خير الأمور أوسطها]

هذه الأمة وسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣] بأقواله وأفعاله، ما زاد ولا نقص، وقلنا: إنها وسط بين ماذا؟ الوسط: الشيء المتوسط بين طرفين، يقول علماء التفسير: الأمم التي سبقتنا عندهم إما تفريط وإما إفراط، وعلماء الأخلاق يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، وبها جاء القرآن، فالبخل طرف مذموم، والتبذير طرف مذموم، والوسط وهو الإنفاق باعتدال هو الكرم {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:٢٩] بخيل شحيح إلى أقصى حد {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:٢٩] يعني: كن معتدلاً {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:٦٧] .

وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم النظر في العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلج انظر في العواقب، فوسطية هذه الأمة بين الأمم الماضية هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء- مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى، فالجسم له متطلبات الحياة من أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر.

إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله والرغبة في الله.

إلخ.

والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح، ويفرِّط في الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى، فاليهود أفرطوا جداً في جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة المحرمة بالحيل، لما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد، ولما حرم عليهم الشحوم إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا الثمن، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة.

والنصارى بالعكس: فرطوا في أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا رهبانية، وابتدعوا عبادات {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧] ، فجنحوا إلى الجانب الآخر.

ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما استطاع اليهود أن يواصلوا بها السير، ولا استطاع النصارى أن يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع الموازنة المعتدلة بين الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:٩] هذا النداء روحي أم مادي؟ روحي {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:٩-١٠] هل قال بعدها: امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في المساجد، اتركوا الدنيا؟ لا، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] ، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه وتعالى، يعني: فاجمعوا بين الدين والدنيا.

وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات صاحب الدكان والبقالة أو القماش في رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة أو القماش وضع الريشة حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا ذهب الزبون رجع إلى المصحف، دين ودنيا.