للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الاعتكاف من غير صوم، وصفة المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف]

قولها: (ولا اعتكاف إلا بصوم) .

ولا اعتكاف إلا بصوم، يقول علماء الحديث: (ولا يخرج إلى البيت إلا لما لا بد له منه) هذا نهاية ما قالت في أول الأمر: من السنة، وما بعدها إنما هو ممن أضافه بعد ذلك إلى الحديث، وهو: (ولا اعتكاف إلا بصوم) وما بعده، فكثير من علماء الحديث يقولون: هذا ليس مما جاءت به السنة؛ لأن الصوم مع الاعتكاف موضع خلاف، ولكن على هذا النص: (لا اعتكاف إلا بصوم) اختلف العلماء هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟ فـ مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد المشهور عنهم أنهم يقولون: لابد للمعتكف من الصوم، وأما غيرهم فيقولون: لا يشترط لما جاء من قول النبي لـ عمر عند أن قال له الرسول: (أوف بنذرك) ونذره كان بالليل، وإذا أراد أن يوفيه فسيوفيه بالليل، والليل ليس موضع صيام، فهذا يدل على أن الصوم ليس بشرط.

والشافعي رحمه الله لا يشترط الصوم مع أنه يستحبه، قال: يستحب له أن يكون صائماً ولكن ليس بشرط في صحته، والجمهور يقولون: الرسول لم يعتكف إلا صائماً في رمضان، قالوا: اعتكف في شوال -كما في قصة الأخبية على ما سيأتي- العشر الأول، ومن العشر الأول يوم العيد ويوم العيد ليس بيوم صوم.

فقالوا: إنه لم يعتكف إلا بصوم وفي المسجد النبوي، فقال النووي رحمه الله: نعم هو اعتكف في رمضان صائماً، فهل صومه في رمضان وهو معتكف كان لرمضان أو للاعتكاف؟ فإن قلتم: كان صومه لرمضان فلا دخل للاعتكاف في صومه، وإن قلتم: كان صومه للاعتكاف ضيعتم عليه صوم رمضان.

إذاً: يتعين في هذه الحالة أن يكون الصوم لرمضان وصادف أن جمع معه الاعتكاف، ولهذا فإن الصحيح الراجح أن الاعتكاف يصح بدون صوم، ولكن كما قال الشافعي: الأفضل أن يكون المعتكف صائماً؛ لأنه أدعى إلى خلو نفسه وإلى صفاء روحه، والصوم يساعده على العبادة أكثر.

قولها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) .

ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع هذه الجملة يتفق عليها الجمهور، بمعنى: أن لا يكون الاعتكاف في بستان، ولا يكون الاعتكاف في خيمة في مكان ما، بل لابد للمعتكف أن يكون اعتكافه في مسجد، والمسجد يقول هنا: مسجد جامع يعني: أنه تصلى فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة، فأما بالنسبة للجمعة فيقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف تشتمل على يوم الجمعة؛ فهو إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة سيكون بين أحد أمرين: إما أن يبقى في معتكفه ويترك الجمعة والجمعة أولى من الاعتكاف.

وإما أن يخرج من معتكفه إلى مسجد تقام فيه الجمعة، فيكون قد قطع اعتكافه بخروجه إلى الجمعة.

إذاً: إذا كانت مدة اعتكافه تشتمل على يوم جمعة فيشترط أن يكون اعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة، وأما بالنسبة لغير الجمعة وهي الصلوات الخمس في جماعة، فإذا كان هناك مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس جماعةً فلا يصح اعتكافه فيه؛ لأنه سيضيع الجماعة، والجماعة للصلوات الخمس أولى من اعتكافه.

إذاً: لابد أن يكون المسجد جامعاً، يشتمل على صلاة الجمعة، وعلى إقام الصلوات الخمس في جماعة.

بقي هل يشترط على المرأة إذا اعتكفت أن يكون اعتكافها في مسجد عام أو أن مسجد بيتها يجزئها؟ يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ومسجد بيتها هو المكان الذي خصصته لصلاتها وتصلي دائماً فيه، وهذه هي السنة، كما جاء عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فلما أتى قلت: أريد أن تصلي لنا يا رسول الله! في بيتنا لنتخذ مكانه مصلى لنا، فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس، فنضحته بالماء وقام فصلى ... الحديث) .

وهنا يستحب العلماء أنه إذا كان في البيت متسع أن يُخصص فيه مكان للصلوات؛ الفريضة للنساء، والنافلة للرجال، وهذا لما جاء في الحديث: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها مقابر) ؛ لأن المقابر لا صلاة فيها، والصلاة في البيوت فيها الرحمة والخير والبركة وتعليم الجاهل وتعليم الصغير، فإذا كان للمرأة مسجد في بيتها بمعنى: مكان مخصص لصلاتها فيصح اعتكافها فيه.

ويقول بعض السلف: لولا أنه جاء اعتكاف النساء في المسجد على عهد رسول الله لقلت: ليس لها أن تعتكف في المسجد؛ لكثرة ما يراها الناس، ولكثرة تعرضها للناس.

وكلمة (مسجد) اسم جنس، ولكن هناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ويستدل بقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:١٢٥] ، وبأثر عمر: نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة عند البيت.

وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.

وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي؛ نظراً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في أي مسجد قط إلا في مسجده، فلم يعتكف في مكة، ولا في بيت المقدس ولا في أي مسجد آخر، فقالوا: السنة أن يعتكف الإنسان حيث اعتكف صلى الله عليه وسلم.

وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وسيأتي المؤلف في آخر باب الاعتكاف بحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، يشير إلى هذا القول، ولكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: على صحة الاعتكاف في أي مسجد كان مادام مسجداً جامعاً.

قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، رواه الدارقطني والحاكم، والراجح وقفه أيضاً] .

بعدما ساق لنا المصنف المدرج في حديث أم المؤمنين عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصيام) ، جاءنا بأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، بأن نذر أو اختار أن يصوم مع اعتكافه، أما من أجل الاعتكاف فـ ابن عباس يقول: ليس عليه صيام.

وهنا يقول بعض العلماء: هذا موقوف على ابن عباس، أي: أن ابن عباس لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه يتعلق بأمر تشريعي، وبصحة عبادة مشروعة؛ لأنه قال: (لا صوم على المعتكف) .

إذاًَ: ابن عباس يقول: لا صوم على المعتكف، وأم المؤمنين عائشة تقول: لا اعتكاف إلا بصوم، ووجدنا مع المناقشة أن الراجح أنه يصح الاعتكاف بدون صوم.

ولعل في هذا القدر -فيما يتعلق ببداية دخول المعتكف، وما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز له، وصحة الاعتكاف بصوم أو بغير صوم- كفاية إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.