للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من فوائد حديث: (هو الطهور ماؤه)]

تكلم ابن عبد البر رحمه الله وغيره في شرح هذا الحديث ومدلولاته، وابن عبد البر تتبع رواياته التي أشار إليها المؤلف، ثم ذكر فوائد الحديث، وقد أشرنا إلى بعضها، ومن فوائده: أن قوله: (إنا نركب البحر) فيه إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركوب البحر، وفي هذا رد على من يقول: لا يجوز ركوب البحر إلا للضرورة، وهو مروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وابن عمر يقول ذلك مخافةً من الهلاك؛ لأن البحر غول كما يقول الناس، ولهذا لا ينبغي لإنسان أن يركب البحر عند الهيجان في شدة المد والجزر، ومعلوم أن شركات التأمين التجاري لا تسمح لباخرة تحمل بضاعة تحت تأمينها أن تبحر وقت هيجان البحر؛ لأنها إن غرقت السفينة ضمنتها شركة التأمين، فهي لا تسمح لسفينة تحت ضمانها أن تبحر إلا إذا أخبرتها هيئة الأرصاد الجوية أن البحر هادئ، ودائماً نسمعهم في النشرات الجوية يقولون: الموج ما بين مترين ومترين ونصف إلى ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار، إلى غير ذلك من أحوال البحر، فإذا كان البحر في وقت هيجانه فلا ينبغي للإنسان أن يركبه؛ لأن هذا قمة التهلكة، أما وهو هادئ فلا بأس، وقد يفاجأ أهل السفينة بأمواج عاتية؛ فحينئذ يكون الأمر بقضاء الله وقدره.

وقوله: (إنا نركب البحر) ، أي: نركب السفن في البحر، وحذف ما يعلم جائز كما يقول ابن مالك.

وقوله: (ونحمل معنا القليل من الماء) ، وفي بعض الروايات: (القربة من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فقال صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، يقول العلماء: من كان معه ماء في سفر أو في فلاة من الأرض، والماء على قدر حاجته؛ فلا يتوضأ به، بل يتيمم؛ لأن الرسول أرشدهم إلى ماء البحر مع وجود الماء العذب؛ لحاجتهم إليه في الشرب، وكذلك المسافر إذا احتاج إلى الماء في الشرب وفي صنع الطعام، قال العلماء: حتى ولو كان معه الدابة يركبها أو يسوقها، وهي في حاجة إلى هذا الماء لتشرب منه؛ فلا يجوز له أن يتوضأ، بل يوفر الماء للدابة كما يوفره لنفسه، ويتيمم؛ لأن الوضوء له بديل، وليس لماء الشرب بديل، فإذا قل الماء على مسافر أو على أحد في فلاة، واحتاج أن يوفر الماء لنفسه لشرابه أو طعامه، أو شراب ما معه من الحيوان المحترم الذي يصحبه معه؛ فليتيمم.

قال: فإن توضأنا منه عطشنا؛ لأنه قليل، ولا يمكن أن نشرب من ماء البحر، فكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم من جانبين: الجانب الأول: أنه أفتاهم بزيادة عما سألوا، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وهم لم يسألوا عن ميتة البحر.

الجانب الثاني: عدم الإجابة بنعم أو لا، ولما قال: (هو الطهور) كأنه ألغى صورة السؤال، وجعل الجواب مستقلاً، أي: سواء ركبتم ومعكم القليل من الماء، أو الكثير من الماء، أو لم تحملوا ماءً بالكلية، وسواء كنتم تحتاجون إلى ركوب البحر أو لا تحتاجون، فمن ركب البحر، واحتاج إلى الوضوء؛ فالبحر ماؤه طهور وميتته حلال، فلو قال: نعم؛ لكان الجواب محتملاً أن يكون مقصوراً على الذين يصطادون في البحر، أو حياتهم ترتبط بالبحر، ولا يشمل من ينزلون للنزهة، أو للسفر لأمر آخر، بل جاء بقضية مستقلة، بمبتدأ وخبره (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .