للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث]

أعتقد أن الراجح في هذه القضية أنه مبيح وليس برافع؛ لأنه يترتب على ذلك أشياء كثيرة، والدليل على أن التيمم مبيح وليس برافع، قضية المزادتين، لما كان صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، وانتهى ماء الجيش، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليتحسسا الماء، فسارا في طريقهما والمسلمون ينتظرون، وعند قرب الزوال لقيا امرأة -ضعينة- بين مزادتين فسألاها عن الماء الذي سقت منه، فقالت: عهدي به أمس الساعة، يعني: مشيت من على الماء أمس في مثل هذا الوقت من الظهر، معنى هذا أنه مضى عليها منذ تركت موضع الماء أربعة وعشرون ساعة، فهل يا ترى يذهبون للبحث عن ذلك الماء؟! فاختصرا الطريق وقالا: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معها مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة المصنوعة من جلد البعير أو الثور، فقالت: إلى ذاك الصابي؟! قالا: ذاك الذي تعنين، واقتاداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بالأمر، قال: أنزلاها، وأخذ من كل مزادة جزءاً من الماء، ودعا فيه وبرّك عليه، وأعاد الماء إلى المزادتين، ثم دعا الجيش: هلم فاملئوا أوعيتكم، فملأ كل إنسان ما عنده من قربة أو أداوة أو أي شيء، وتوضئوا، وسقوا دوابهم، واكتفوا من كل الجوانب بالماء.

وكان في صلاة الصبح رجل معتزل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني أجنبت ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فتيمم وصلى) ، فلما جاءت المزادتان وتوفر الماء قال: (أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا، فأعطاه إناء به ماء وقال: خذ فأفرغه على جسمك) .

وهناك حديث عمر وعمار رضي الله تعالى عنهما: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فما حكم السنوات العشر التي كانت بالتيمم ألم تكن طهارة؟ بلى، ولكن كانت مبيحة، وهنا في قضية المزادتين، حينما أعطى الرسول الماء للرجل وقال: (خذ فأفرغه على جسمك) ، فهل كان ذلك لجنابة جديدة بعدما صلى الصبح، أم للجنابة الأولى التي امتنع عن صلاة الصبح بسببها، ثم تيمم وصلى الصبح؟ الجواب: للأولى.

فإن قيل: ولكنه تيمم وصلى، فيرد عليه: التيمم لم يرفع الجنابة -الحدث- ولكن أباح له الصلاة من أجل الوقت.

إذاً: التيمم ليس طهارة كاملة، فقوله: (أدخلتهما طاهرتين) يتعين أن يكون ذلك بطهارة مائية.

وقوله: (أدخلتهما) بضمير التثنية، يتفق الجمهور - ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله على أن الإنسان لو توضأ كما أمره الله، ولما غسل القدم اليمنى أدخلها في خفها، ثم غسل اليسرى فأدخلها في خفها، في هذه الحالة يكون أدخلهما طاهرتين، أم أدخل الأخيرة وهي اليسرى وهما طاهرتان؟ وهل يصح المسح على مثل هذا أم لا يصح؟ قالوا: لا يصح؛ لأنه لم يدخلهما معاً وهما طاهرتان.

لكنه غسل اليمنى وطهرها؟ قالوا: لا.

الطهارة في الوضوء لا تتجزأ، ولا تكمل طهارة القدم اليمنى إلا بعد إتمام غسل القدم اليسرى ويكتمل الوضوء، فحينئذ تكون قد طهرت أعضاء الوضوء، فلبسه اليمنى قبل يكون قبل أن تطهر اليمنى؛ لأنه بغسلها قبل اليسرى ما تمت طهارتها، ولا تتم طهارة اليمنى إلا بإكمال غسل اليسرى، أي: بإكمال الوضوء.

ولهذا قالوا: يشترط في المسح على الخفين أن يدخل القدمين معاً بعد وفاء الطهارة لهما، ولا يكون ذلك إلا بعد إكمال غسلهما قبل أن يلبس الخف في إحداهما، والإمام أبو حنفية رحمه الله يجوز أن يغسل القدمين فيلبس الخفين ثم يكمل الوضوء، وهذا بناء على النزاع المتقدم في الترتيب، هل هو واجب أو غير واجب؟ والذي عليه الجمهور أنه -كما تقدم- لا يتم المسح إلا إذا أكمل الوضوء وغسل القدمين ثم لبسهما بعد تمام الغسل.

إذاً: فحديث المغيرة يعتبر هو الأصل في هذا الباب، فإنه أثبت المشروعية بعد آية الوضوء قطعاً، ثم بين لنا الشرط، ثم نص على الممسوح عليه وهو الخف، وسيأتي النزاع في شكلية وصفات الخف الذي يصح المسح عليه، ثم الشرط في جواز المسح، وهو أن يكون قد لبسهما على طهارة.

مداخلة: فإذا توضأ وغسل القدم اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف ما حكم وضوئه؟! الشيخ: يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، لكن هذا الخف الذي لبسه بهذه الصفة لا يصح المسح عليه.

مداخلة: هل من الممكن أن ينزع خفيه ثم يلبسهما بعد غسله لقدمه اليسرى؟! الشيخ: ينزع الخف عن القدم اليمنى، وينزع الخف عن اليسرى، ثم يبدأ لبس الخف بعد إتمام طهارة القدمين، فهو لبس اليمنى قبل أن يغسل اليسرى، فلبسه لليمنى يكون قبل إتمام طهارتها، فينزعه، وبعد أن يكمل غسل اليسرى يلبس الخفين، سواء ألبس اليسرى أم اليمنى فلا وجود للترتيب هنا، فيكون لبس الخفين بعد تمام غسلهما معاً.