للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مدة المسح على الخفين]

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله: سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قال: [وعن صفوان بن عسّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه] .

أنهى المؤلف رحمه الله موضوع المشروعية، في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، مع الشرط اللازم لصحة المسح على الخفين، وهو: (أدخلتهما طاهرتين) ، ثم قدم لنا كيفية المسح، ثم جاء إلى المدة، فإلى متى يمسح الإنسان على خفيه؟ هل هناك توقيت، أم ليس هناك توقيت؟ فبدأ بحديث التوقيت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً -جمع مسافر- أن نمسح على الخفاف ثلاثة أيام بلياليهن) ، هذا إذا كنا مسافرين، فقال في الحديث: (ألاّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة) ، لا ننزعها إلا من جنابة، ولو كان بعد ست ساعات، أو عشر ساعات، فالجنابة لا مسح فيها على الخفين، بل يجب غسل الجسم كاملاً ومن ضمنه القدمين، ولا مسح من جنابة.

فنمضي في المسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا ننزع الخفين لنغسلهما، بل نستمر في المسح عليهما ثلاثة أيام، إلا إذا حدثت جنابة ولو بعد يوم واحد، وهذا في حالة السفر.

قوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) أي: لا ننزع الخفين إلا من جنابة، ونبقيهما من غائط وبول ونوم، أخذ العلماء القطع بأن الغائط والبول ناقضان للوضوء، وأخذوا أن النوم ناقض للوضوء من هذا الحديث، أما الغائط والبول فبالإجماع ولا نزاع في ذلك، ولكن النوم حقيقته عند العلماء أنه ليس بناقض، ولكنه مظنة النقض، ومعنى مظنة النقض: أن النوم من حيث هو غلبة النعاس على العين وعلى القلب ليس فيه حدث، ولكن حين ينام الإنسان لا يدرك ما يحدث منه، فهو مظنة أن يقع منه حدث ينقض الوضوء وهو لا يدري بسبب نومه، ولذا جاء في حديث ابن عباس: كنا ننتظر الصلاة حتى تخفق رءوسنا.

وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، ومن نام جالساً؟ قالوا من نام جالساً ليس عليه شيء؛ لأن الجالس ولو نعس لا يتمكن الريح أن يخرج منه؛ لأن موضع خروجه لا مجال له، فإذا اضطجع سهل خروج الريح منه وهو نائم لا يدري.

إذاً: النوم بذاته ليس حدثاً، ولكنه مظنة الحدث وهو لا يدري، ولغلبة الظن على وجود الحدث عند النوم فقد اعتبر النوم هو الناقض، ولذا من نام مضطجعاً فعليه الوضوء.

إذاً: المسح على الخفين لا يكون من الجنابة، بل الجنابة يجب فيها نزع الخفين وغسل القدمين، وهذا الحديث أعطانا التوقيت للمسافر بأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، لكن كيف يمسح إذا كان السفر أطول من ذلك؟ بعد المدة المحددة ينزع الخفين، ويتوضأ وضوءاً كاملاً، ويلبس الخفين من جديد، ويستأنف ثلاثة أيام أخرى، وهكذا طيلة سفره له بعد كل وضوء كامل ولبس الخفين على طهارة أن يستصحب الحكم إلى ثلاثة أيام، فهذا حكم للتوقيت في المسح في السفر ثلاثة أيام، وبيان أن الجنابة ليس فيها مسح، فإنه ينزع الخفين ولو بعد اللبس بساعات معدودة، وأعتقد أن هذا القدر في بيان المسألة يكفي، وأنصح بمطالعة أضواء البيان عند آية المائدة، فالشيخ الأمين رحمه الله ناقش قضية المسح، مع قضية غسل القدمين ومسحهما، وأتى بتفريع وتعليقات ومسائل تكاد تكون قد أحاطت بموضوع الخفين من كل الجوانب، وقد أُفرِد المسح على الخفين ببعض الكتب، وبالله تعالى التوفيق.

[عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين) أخرجه مسلم] .

بدأ المؤلف رحمه الله في بيان التوقيت.

إلى متى يمسح الإنسان على الخفين إذا لبسهما طاهرتين؟ هل يمسح بصفة دائمة بدون توقيت بزمن، أم أن هناك تحديداً للزمن، بحيث لو انقضى هذا الزمن نزع الخفين وتوضأ وغسل القدمين، ثم إن شاء لبس الخفين مرة أخرى واستأنف المسح، وهكذا دواليك، ولو كان طول السنة؟ العلماء يختلفون في التوقيت، فالجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي هنا، وكما سيأتي في حديث ثوبان - وقّت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ما دام في سفره، وللمقيم مدة يوم وليلة، أي خمس صلوات، ويتفق الجميع على أن المسح على الخفين مطلق لا يتوقف على عذر، لا لمرض في القدمين، ولا لشدة بردٍ، ولا لشيء من ذلك، فلو كان في أشد الصيف وأشد الحر، وكانت قدماه أصح ما تكون، فإن له إذا لبس الخفين على طهارة أن يمسح، ولا يتوقف ذلك على أي عذر كان.

وقالوا: المرأة والرجل في ذلك سواء، فالمرأة إذا لبست خفين على طهارة هي كالرجل؛ في الإقامة يوم وليلة، وفي السفر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا يتوقف ذلك على عذر أو على صفة أو على داعٍ سوى مجرد اللبس.

وعند مالك رحمه الله النزاع في المدة، فهناك من يروي عن مالك رحمه الله بأنه لم يوقت، وجعل المسح على الخفين بدون توقيت لا في حضر ولا في سفر، وسيأتي مأخذه في الأحاديث التي سيسوقها المؤلف، من أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أمسح على الخف يوماً يا رسول الله؟! قال: نعم.

قال: ويومين؟ قال: نعم.

قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) ، فقوله: (نعم، وما شئت) أخذ منها مالك بأن هذا مطلق، أي: على مشيئته هو، والجمهور أخذوا بالتنصيص على التوقيت، وقد بحث والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في أضواء البيان عند آية الوضوء، ثم قال: هذه النصوص الموجودة مختلفة، ولا يمكن الجمع بينها؛ لأن بعض العلماء -كـ ابن قدامة في المغني - قال: يجمع بين هذه النصوص، فيقال: (نعم، وما شئت) ، أي: إذا مضت الأيام الثلاثة، وأردت أن تمسح فاخلع الخفين، ثم اغسل، ثم البس، ثم امسح ما شئت.

وهذه طريقة من طرق الجمع بين الأدلة.

الشيخ الأمين رحمه الله يقول: هذا تخريج، ولكن الجمع هو أن تحمل الموضوع بالنصّين وتجمع بينهما دون مغايرة لهذا النص أو لذاك النص، كما لو جاء نص مطلق ونص مقيّد، فيحمل المطلق على المقيّد، مثل عتق الرقبة؛ فقد جاء مرة مطلقاً بدون قيد الإيمان، وجاء مرة (رقبة مؤمنة) ، فحملنا المطلق على المقيد، وهنا يقول: لا يتأتى الجمع؛ لأن أحاديث التوقيت في السفر وفي الحضر تحدد مدة معينة، وحديث: (وما شئت) يقتضي الزيادة، والمعارضة بين الزيادة وعدم الزيادة تناقض، والمتناقضان لا يُجمع بينهما، والعلماء يقولون: إذا اختلف نصان؛ فإما أن يُعرف التاريخ فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وإما أنه لا يعرف ويمكن الجمع بينهما، كما جاء -مثلاً- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فجاءت نصوص بأنه قد دخل وصلى، وجاءت نصوص بأنه دخل ولم يصل، فجمعوا بين النصين، وقالوا: إنه دخل الكعبة مرتين؛ مرة في فتح مكة، ومرة في حجة الوداع، فيكون الذي ذكر أنه صلى في إحدى الدخلتين، والذي ذكر أنه لم يصل يكون في الدخلة الأخرى، وليس هناك تعارض، وبهذا جمع بين النصين؛ لأن النافي والمثبت لم يذكر زمن الصلاة أو زمن عدمها، ولصحة التعارض ينبغي أن يتفق التعارض في الزمان وفي المكان وفي الفاعل، فإذاً: أمكن الجمع، فمن قال إنه لم يصل كان صادقاً؛ لأنه في هذه المرة لم يصل، ومن قال: إنه صلى كان صادقاً؛ لأنه صلى في المرة الأخرى، ولا تعارض بينهما.

فإذا لم يمكن الجمع كان المصير إلى الترجيح، فأي النصوص أرجح، نصوص التوقيت، أم نصوص الإطلاق؟ يقول شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: والأرجح الذي تطمئن إليه النفس إنما هو ترجيح نصوص التوقيت؛ لأنه أحوط في العبادة؛ ولأن رواته أوثق من رواة الإطلاق، ولأن رواته أكثر عدداً من رواة الإطلاق.

إذاً: تتعارض النصوص في توقيت مدة المسح سفراً وحضراً، وفي عدم التوقيت، فـ مالك أخذ بعدم التوقيت في رواية عنه، والجمهور أخذوا بأحاديث التوقيت، وقالوا: من لبس الخفين ومسح عليهما فليلتزم بالتوقيت فإن كان مسافراً ثلاثة أيام بلياليهن، وإن كان مقيماً يوماً وليلة، فإن أراد أن يمسح نزع وتوضأ فغسل، ثم لبس واستمر في المسح ولو عشر سنين.