للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما يلحق بالمسح على الخفين]

قال: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم- والتساخين -يعني: الخفاف-) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم] .

حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، (بعث) مادة تتعدى بنفسها، وتتعدى بالحرف، فنقول: بعث بهدية بعث بخطاب بعث زيداً.

ويقول علماء اللغة: إذا كان المبعوث يمكن أن يُبعث بنفسه فلا يُحتاج إلى الحرف، بعثت مبعوثاً إلى موضع كذا أرسلت مرسولاً إلى كذا، فلا يُحتاج أن تقول: بعثت بزيد إلى كذا، بل تقول: بعثت زيداً.

أما إذا كان المبعوث لا يصلح أن يبعث بنفسه -كالخطاب، أو الهدية، أو الطعام- فتقول: بعثت لزيدٍ بالكتاب بعثت لزيدٍ بهدية.

وهنا قال: (بعث سرية) ؛ لأن السرية تنبعث بنفسها، والسرية في الاصطلاح قالوا: ما دون الأربعين، وقالوا: بل كل جمع خرج لقتال ليس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى سرية، وكل جمع خرج فيه رسول الله يسمى غزوة، ولو كان الرجال عشرة أشخاص ومعهم رسول الله تسمى غزوة، هذا اصطلاح تاريخي في السيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالسرايا، وقبل أن يخرج إلى بدر بعث عدة سرايا إلى سيْف البحر، وكان فيها حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله وعكاشة بن محصن وغيرهم، فكان يرسل السرايا في اتجاهات معينة إما للاستطلاع، وإما لأنه يكون قد بلغه خبر عن جماعات يتأهبون لغزو المدينة، فيرسل إليهم سرية تعاجلهم في مكانهم.

تلك السرية لما رجعت اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البرد (فأمرهم أن يمسحوا على العصائب) ، والعصائب: جمع عصابة، وهو ما يعصب به الرأس، أو يعصب به الأعواد أو نحو ذلك، لكن في الاصطلاح: هي ما يعصب بها الرأس، ومنه سميت العصابة، فكل ما يوضع على الرأس لمصلحتها يسمى عصابة، ومنه العمامة؛ لأنها تعصّب الرأس وتدور حولها، فقالوا: كل ما تعمم به الإنسان وأداره على رأسه يصدق عليه اسم العمامة، (فأمرهم) وأصل الأمر للوجوب، ولكن أمر هنا بمعنى رخّص وأجاز؛ لأن المسح على هذه الأماكن ليس واجباً، كما سيأتي قوله: (رخّص) ، وقوله: (إن شئت) .

قال: (والتساخين) ، أي: وعلى التساخين، وقالوا: التساخين: هو كل ما يسخن القدمين، أي من البرد، وقدمنا أن البرد ليس علة في الترخّص في المسح، ولكن السرية اشتكت، وصادف ذلك الترخيص في المسح، ومن هنا أخذ العلماء توسعة نطاق المسح على ملبوس القدمين، فقالوا: هناك الخف، وهناك الموق، وهناك الجرموق، وهناك الجورب، والنعل؛ كل هذه أسماء لملبوسات في القدم، أما النعل فلم يثبت أنه جاء المسح عليها، وكل أثر جاء في المسح على النعلين فلا يثبت، اللهم إلا ما جاء في المسح على النعلين والجوربين، فيكون مجموع النعلين مع الجوربين كأنهما شيء واحد؛ لأن النعل لا يغطي موضع الوضوء في القدم، ويشترط في الخف الذي يمسح عليه أن يكون مغطى وساتراً موضع الغسل من القدمين في الوضوء، والرِّجل تكون مكشوفة في النعل.

إذاً: ما كان على هيئة الخف، والأصل في الخف أنه مصنوع من الجلد، فبعض الناس قالوا: لا يمسح إلا على الخف الذي هو من الجلد؛ لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، فجاء هذا الحديث: (والتساخين) ، وهو ما يسخن القدمين، فإذا لبس الجرموق وهو أكبر من الخف، أو لبس الموق وهو أكبر منه ويلبس عليه، فلا مانع أن يمسح عليه.

ثم جاء موضوع الجورب، فالشافعية يقولون: لا يمسح على الجورب إلا إذا كان صفيقاً منعَّلاً، ومعنى منعَّل: مجعول له نعل من الجلد من الأسفل ليشابه الخف في إمكان المشي عليه، وهم يتفقون ويقولون: كل ما أمكن تتابع المشي عليه جاز المسح عليه، ولكن تتابع المشي أين يكون؟ في الصحراء والخلاء، أم في البيوت؟ قالوا: في البيوت؛ لأن بعض الأماكن لا يصلح المشي عليه حتى بالحذاء الحديث، إذاً: ما يمكن تتابع المشي عليه بأن يمسك نفسه، بقينا الآن في الجورب غير المنعَّل، فعند الأحناف نوع من التوسعة في هذا الموضوع، فكل جورب لبس على القدمين يمسح عليه، والآخرون يقولون: لا.

الأصل في ذلك الخف، فما كان من جورب يأخذ صفات الخف -ولو من غير الجلد- يمسح عليه، سواء أكان من الصوف أو من الشعر أو من القطن، بل حتى قال النووي في وصف الخف: ولا يشترط فيه أن يكون ساتراً للبشرة، كما لو كان من زجاج مثلاً، فالزجاج يكون متيناً ويكشف ما تحته، فإذا كان نوع الخف كما هو الحال الآن من النايلون أو البلاستيك، وبعضهم قال: ولو كان من الخشب، الخشب لا يكشف ما تحته، ولكن يقولون: في عموم ما يلبس ويأخذ صفات الخف من أن صفاقته تمنع نشع الماء من خلاله إلى القدم؛ لأنه إذا كان خفيفاً رقيقاً شفافاً يوصل الماء إلى ما تحته ماذا أنت مسحت على الجورب، فعندها سيصل الماء إلى القدم، فتكون قد مسحت القدم، فإذا كان جاء الحكم إلى القدم فالقدم حكمها الغسل، وأنت هنا لم تغسل القدم وإنما مسحت الجورب، ولكن تعدى المسح إلى القدم، والقدم من حكمها الغسل، ولهذا يقال: جميع أنواع الأحذية التي يرتفع ساقها إلى ما فوق الكعبين -وهو موضع غسل القدمين في الوضوء- وكان صفيقاً متيناً جاز المسح عليه أياً كان نوعه، ولو قدِّر أن هناك لفافات متينة من الورق على شكل طبقات بعضها فوق بعض فإنه يجوز المسح عليها، أما إذا كان خفيفاً كبعض الجوارب الموجودة الآن، والتي يلبسها الناس في الصيف، بعضها يكون مخرقاً كالشبكة، وبعضها يكون رقيقاً جداً بحيث يكشف عما تحته، ولا يمنع من وصول الماء إلى القدم، فهذا ينبغي إلا يعول عليه، ولا يمسح عليه، والله تعالى أعلم.