للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة

ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج) فيكون في بداية الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي: الإفراد أفضل؛ لأنه هو الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... ) يعني: لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي، ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء في: ما هو الأفضل في الأنساك؟ ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع، وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي: متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.

وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما، وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد، وعلى العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وسلم و (عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم، وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد: ألأنه أفضل في مذهب مالك؟ قال: لا، ليس للأفضلية ولا لـ مالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟ قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع، وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً.

ثم قال -ويا نعم ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس، والأحاديث التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.