للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الصوم بعرفة للحاج]

هنا يبحث العلماء في يوم عرفات وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم هل كان صائماً في هذا اليوم أو كان مفطراً؛ لأنه قد قال: (صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر سنتين: السنة التي هو فيها، والسنة الماضية) وبين أن صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي هو فيها، قيل: لأن عاشوراء لموسى عليه الصلاة والسلام فكان يكفر سنة واحدة، وعرفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكفر سنتين.

وقد اختلف الصحابة في صومه صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يجرءون أن يسألوه: هل أنت صائم أو مفطر؟ فذهبوا إلى أم الفضل رضي الله عنها وسألوها، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم قدحاً من اللبن بعد العصر، وهي تعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يرد ثلاثاً: اللبن والريحان والوسادة، إذا كان جالساً وقدمت إليه وسادة ليتكئ عليها فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه الريحان أو النباتات العطرية فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه اللبن فإنه لا يرده، وإنما يأخذه ويشرب منه، فلما علمت ذلك أرسلت إليه بقدح من اللبن بعد العصر، فأخذه ورفعه على رءوس الأشهاد وشرب، فعلموا يقيناً أنه مفطر وليس بصائم.

وهنا نجد أن بعض العلماء اجتهدوا وقالوا: النص قد جاء في فضل صوم يوم عرفة، وفطر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ليبين الجواز وليس فيه الوجوب، فمن صام وقوي على أعمال الحج ولم يقصِّر في واجباته فلا بأس أن يجمع بين الفضلين، ومن كان يضعفه الصوم عن أداء واجبات الحج فلا يصم وليفطر، ولكن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم أفطر مع ما أعطاه الله من القوة البدنية، فقد كانوا إذا اشتد بهم الأمر في الحرب يحتمون بشخصه صلى الله عليه وسلم، وفي حنين حينما انصرفوا ورجعوا وقف وأعلن عن نفسه، وهذا على خلاف المعتاد، فإن العادة جرت أن القائد يخفي نفسه في حالة الانهزام أو الرجوع، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويعلن عن نفسه: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: الذي لا يعرفني فأنا هاهنا؛ وذلك لثقته بنصر الله، ولقوته وشجاعته، فكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين رجلاً، ومع ذلك لم يصم في عرفات، والله تعالى أعلم.

ونحن الآن إذا تأملنا نجد: أن الله سبحانه وتعالى قد خفف في التكليف الواجب؛ ليعطي الحاج وقتاً لاغتنام فرصة عمره؛ لأن الحج قد لا يتيسر في العمر إلا مرة، فنجد أن الصلاة التي قال عنها سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:١٠٣] أي: كل واحدة في وقتها، لكن خفف الله عز وجل فيها عن الحاج، فأذن له أن يقدم العصر مع الظهر، ويؤخر المغرب مع العشاء، ليصبح عنده نصف الزمن، فهو من زوال الشمس إلى منتصف الليل -الذي هو آخر وقت فضيلة للعشاء- غير مطالب في هذا الوقت بفرض الصلاة؛ لأنه قد انتهى منها، فقد قدم الظهر والعصر عند الزوال، وأصبح متفرغاً ليس مشغولاً بالعصر، وأما المغرب فقد أخرها حتى يصل إلى المزدلفة، فأعطى الله عز وجل الحاج فرصة فسيحة ليؤدي فيها واجب هذا اليوم العظيم؛ لأن يوم عرفة يوم عظيم وأنا أسميه يوم الأمة الإسلامية، العالم الآن يحتفل بأيام معينة؛ كيوم الاستقلال، ويوم النصر، ويوم الأمة، ويوم كذا ويوم كذا، ويجعلون هذا اليوم فخراً لهم، أو تذكاراً لنصرتهم إلخ.

وهذا اليوم هو يوم العالم الإسلامي كله، ويكفي أن الله سبحانه اختص هذا اليوم بتمام النعمة وكمال الدين، وقد جاء رجل من اليهود إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! والله! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا نزلت لجعلنا يوم نزولها عيداً، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣] فقال عمر: والله! إني لأعلم متى نزلت، لقد نزلت في يوم عيد في يوم عرفة وهو عيد للمسلمين.

فهنا هذا اليوم العظيم الذي أتم الله فيه الدين وأكمل فيه النعمة لا يوازيه يوم في العام، هذا اليوم الذي يجتمع فيه العالم الإسلامي من جميع أنحاء الأرض؛ شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يجتمعون في صعيد واحد، في لباس واحد، وفي شعار واحد ينادون: لبيك اللهم لبيك فأي وحدة للأمة أعظم من ذلك؟! ونحن الآن لو أردنا أن نعقد مؤتمراً دولياً تجتمع إليه جميع الأمم، وطلبنا من هيئة الأمم أن تجمع لمؤتمر مثل هذا المؤتمر والله! إنها ستعجز، ولكن في هذا اليوم كلٌ يأتي بنفسه، وكما يقولون: عجباً لهذا الجمع في سرعة اجتماعه، وعجباً له في سرعة انصرافه.

قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير) فلعظمة هذا اليوم ووجوب الاجتهاد فيه بالذكر والدعاء يحتاج إلى جهد، فإذا صمنا سننام ونعجز عن أداء أعمال هذا اليوم، وإذا غربت الشمس سيأتي الرحيل إلى مزدلفة، وهناك مشاعر أخرى، ومن بعد الفجر سيأتي الرحيل إلى منى على ما فيها من أعمال الرمي والذبح وغيرها، ومن بعد منى إلى مكة والعودة فالحاج في حركة دائبة خلال أربع وعشرين ساعة.

إذاً: من حكمة التشريع ومن الرفق بالأمة أن يكون الحاج في هذا اليوم مفطراً، ثم إن من فضل الله أن من كانت له أوراد كتلاوة، أو صلاة، كان يفعلها في الإقامة وفي الصحة فسافر أو مرض وقصر عنها، فقد أمر الله ملائكته أن تكتب له مثل أعماله في الإقامة والصحة في مدة سفره ومرضه حتى يرجع ويعافى، فلم ينقص عليه من أجره شيء.

والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطراً وليس صائماً.