للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكليات الخمس والإشارة إليها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر]

وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة التي بين فيها صلى الله عليه وسلم مجمع أحكام الإسلام كاملة، وبدأ الخطبة بقوله: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالشهر الحرام؟ -لأن شهر ذو القعدة وذو الحجة والمحرم هذه الثلاثة من الأشهر الحرم، والرابع هو شهر رجب- قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -أداة التنبيه والاسترعاء- إن دماءكم وأموالك وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،) يعني: تحريم مضاعف ثلاث مرات، بحرمة الزمان والمكان.

وهنا يتأمل الإنسان في قوله: (دماءكم وأموالكم وأعراضكم) وهذه أعظم ثلاث جواهر من الجواهر الست التي لا قيام لأي مجتمع بدون الحفاظ عليها، يقولون: هذه الجواهر الست لا غنى لأي مجتمع أياً كان دينه عنها، فإذا ما انتهكت تلك الجواهر ضاع هذا المجتمع، وصار لا قيام له ولا كيان، وأول شيء للمجتمعات هو الدين، فلابد لكل مجتمع من دين أياً كان هذا الدين، سواءً كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو باطلاً، فلابد من تدين؛ لأن التدين يملأ الداخل، فإن كان سماوياً صحيحاً فهذا هو الرشد، وإن كان غير ذلك فهذا هو الضلال والعياذ بالله! ولهذا يقول بعض الكتاب: من الممكن أن ترى مدينة بدون ملعب، وبدون ملهى، وبدون حديقة، وبدون مسبح، ولكن لا يمكن أن ترى مدينة بدون معبد، فالعبادة والتدين هو من طبيعة البشر، فالدين من الجواهر الست، ولهذا جاء الإسلام بالحفاظ على الدين، وأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يأخذوا بهذا الدين، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] .

وبين صلى الله عليه وسلم حكم من بدل دينه فقال: (من بدل دينه فاقتلوه) وحرم كل ما يؤدي إلى تبديل الدين وتغييره من البدع والخرافات؛ لأن البدع بريد الكفر، وجعل في الردة القتل، وجعل في البدع والخرافات التعزير.

النوع الثاني من الجواهر: العقل، والعقل هو ميزان الإسلام، وهو الجوهرة التي يتميز بها الإنسان عن جميع الكائنات، والتي بها عرف الله سبحانه وتعالى، وتلقى الخطاب بالتكاليف عن الله، والإنسان بغير العقل ينزل عن مستوى الحيوانات؛ لأن الحيوانات لديها تمييز ولديها إدراك، وتعرف ما ينفعها وما يضرها، فتجتنب ما يضر وتسعى إلى ما ينفع، أما فاقد العقل فهو يؤذي نفسه أكثر مما يؤذيه عدوه، ومن هنا أمر الله بالحفاظ على العقل، وحرم كل ما يفسد هذا العقل، وكذلك حرم ما يوصل إلى فساد هذا العقل، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وقال: (كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) وإن كان لا يسكر لكنه طريق إليه، وهكذا حرم كل ما يخل بالعقل من نباتات وكيميائيات، وما أشد مضرة العالم كله اليوم من تلك المفسدات التي دخلت على العقل، وشغل العالم والأمم والدول والحكومات بمطاردة هذه المفسدات التي أفسدت الشباب وأضاعت جهدهم وكيانهم.

النوع الثالث: النفس، حافظ الشرع عليها ولهذا حرم الله القتل وجعل فيه القصاص، وجعل من قتل نفساً واحدة ظلماً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وشرع القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩] .

النوع الرابع: النسب، والنسب هو قوام المجتمعات، ولهذا حرم الله ما يفسد الأنساب، فحرم الزنا، وجعل فيه إما الرجم وإما الجلد، وحرم ما يوصل إليه، من الخلوة بالأجنبية، والسفر بدون محرم، وكذلك سد المنافذ بين الرجل والمرأة عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق الشم، وعن طريق الحركة، فعن طريق البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:٣١] وعن طريق الشم قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فمرت بقوم فوجدوا منها الطيب فهي زانية) وكلمة زانية عظيمة جداً على الأذن، لكن كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .

وكذلك سد منافذ السمع، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢] ومنع الرجل من أن يتسمع أو المرأة من أن تلين بكلامها للرجال، وكذلك الحركة قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١] فكل هذه المنافذ التي توصل شبح المرأة إلى قلب الرجل أو العكس أمر الإسلام بإقفالها، سلامة لها منه وسلامة له منها؛ وذلك لئلا يصلا إلى ما فيه الحد ألا وهو الزنا، وبهذا حفظت الأنساب.

النوع الخامس: الأموال، فقد حفظ الشرع الأموال بأن جعل الله في السرقة حد القطع، وحرم كل ما يوصل إليها، وحرم أكل أموال الناس بالباطل: كالغش، والخداع، والتدليس، وتطفيف الكيل والوزن إلخ، كل ذلك حرمه الله حفظاً للمال، فإذا ما حفظ للمجتمع دينه وعقله ودمه ونسبه وماله كان آمناً، وإذا ما انتهكت فيه بعض هذه الكليات اضطرب ميزانه، وتقوضت أركانه، ففي حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة قال صلى الله عليه وسلم: (إلا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... ) إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) إلى غير ذلك.

ثم أتبع هذا المبدأ الأساسي بالأمر بالأمن حتى يحتفظ المجتمع بالأمن، وحتى لا يكون هناك مجال للاعتداءات، فجاء إلى المرأة شقيقة الرجل فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، استحللتموهن بكلمة الله) أي: ليس بالصداق الذي يدفع، وإنما الصداق نحلة، وإنما الذي أحلها لزوجها بعد أن كانت محرمة عليه هو قول وليها: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله، فيرد ويقول: قبلت هذا الزوج على كتاب الله وسنة رسول الله.

ثم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وذكر صلى الله عليه وسلم حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الولاة، إلى آخر ما جاء في تلك الخطبة العظيمة التي لو جمعت أطرافها، وبوبت وشرحت وبين ما فيها لكانت أعظم دستور للأمة؛ لأنها تبين ما أجمله القرآن والسنة من تعاليم الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.