للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيع الغرر: صوره وحكمه]

أما بيع الغرر، فتقدم التنبيه عليه في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، مثلاً تكون الناقة حاملاً، فيقول: أبيعك الذي في بطنها، هذا نوع.

أو تكون حاملاً، فيقول: أسلفني ألف ريال أسددك بعدما تنتج الناقة ما في بطنها، ويكبر هذا النتاج، وينتج، يعني: في البطن الثالث، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، سواء وقع البيع على الحمل الموجود، أو الذي سيوجد فيما بعد، أو جعل ذلك موعداً لسداد الديون المؤجلة؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يُدرى ما الذي في بطنها؟! أذكر هو أم أنثى؟! مكتمل أم خلوج؟ .

إلخ فكل ذلك مجهول، إذاً: هناك غرر.

وأشرنا بأن كل بيع فيه غرر مندرج تحت هذا الحديث، وجاء التصريح هنا بالنهي عن بيع الغرر: (وعن بيع الغرر) .

ومن أمثلة بيوع الغرر: أن تأتي إلى الدكان، فتجد فيه علباً مغلقة، سواء كانت للملابس الجاهزة، أو للأحذية، أو لأدوات منزلية، أو كذا، فتقول: ماذا في هذه العلبة؟ قال: فيها حذاء، طيب أريد أن أفك، قال: لا، لا تفك! هو على ما هو عليه! أنا اشتريته مقفولاً وأبيعه مقفولاً، طيب أريد أن أعرف اللون، والمقاس، قال: لا، فأنت ما تدري ماذا تجد، هل هو خاص بالرجال، أو بالنساء، أو هو كبير، أو صغير، نوع جيد، أو نوع رديء؟ فهذا غرر في المبيع، فلابد أن تفك، وأن تنظر، وأن تتأمل؛ فإن طاب لك أخذت، وإن لم يطب لك تركته في محله.

وكذلك ما يوجد في بعض الجهات، تأتي بنوع من اللباس، مطبق ومشبك بدبابيس، ومغلف في كيس من النيلون، أو نحوه، فإذا أردت أن تفك، يقول: لا تفك، إذا فكيته وطبقناه، وإذا أتى زبون آخر فلن يأخذه؛ لأنه مفكوك، لكن ما ندري فربما يكون فيه شق! أو عيب، فكيف نفعل؟ لكن يقولون: يغتفر في مثل هذا؛ لما علم من تكرار المبيعات في مثل هذه الصورة على السلامة.

فمثلاً: الفنايل تكون في كيس نايلون أو في بعض الأشياء، أو بعض المعلبات، وجرت العادة عند الناس أن تقرأ الرقم فيبين المقاس، ويبين نوعية القماش، فتأخذه على النعت الموجود فيه، وهنا: يصح البيع؛ لما عرف من نظائره السابقة، فإذا حدث وظهر فيه عيب -لم يتعود الناس أن يروه- فله حق رد المبيع بالعيب، أو يأخذ أرش العيب، فهذا العيب كم أنقصها من قيمتها؟ مثلاً: (٢%) ، (٥ %) فأنت بالخيار ترد وتأخذ القيمة، أو تسترجع من البائع أرش النقص (٢%) أو (٥ %) ، وهكذا كل ما فيه غرر.

ومن صور بيع الغرر: بيع ما لا تقدر على تسليمه، ويمثل الفقهاء لهذا: ببيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والفرس الشارد، وكل هذا من بيع الغرر، فإذا قال لك: أبيعك الطير (وهو في الهواء) ، طيب: ومن يحضر لي الطير؟! قال لك: أبيعك السمك في هذا الماء، طيب ومن يضمن لي السمك؟! ولكن: الفقهاء لهم مخارج، فإذا كان الطير في الهواء كما يفعل بعض الشباب الذي يضيع دراسته في هذا، هواية الحمام! حمام جلابي، حمام هزازي، حمام كذا.

إلخ، تعال انظر إليه في الجو، وهو يتقلب بحركات جميلة، يرغبه فيه، قال المشتري: طيب اشتريت، أعطني المبيع، قال البائع: لا، ليس الآن، لما يرجع في الليل، ويبيت فسأذهب وأمسكه.

أو قال: أبيعك هذا السمك، الذي في هذا الحوض، لكن الحوض كبير! مائة في مائة متر! من يعين ويحدده بالذات ويحضره، هذا سمك في ماء، طيب أنا أملكه، الحوض حقي وأنا مربيه، فإذا كان باستطاعته بآلة، أو بأخرى، أن يصطاد هذا السمك، الذي وقع عليه البيع، ولا يختلط بغيره، فهذا مقدور على تسليمه.

وكذلك الطير في الهواء إذا كان قادراً على تسليمه ويستمهل إلى مجيء الليل، والمبيت؛ فلا مانع، وتكون رؤيته في الهواء من باب رؤية حركاته التي يرغب فيها، وهو قادر على التسليم فيما بعد، فقالوا: مثل هذا لا بأس.

أما إذا جاءت يمامة، أو جاء طاووس، ووقع على الشجرة، فقال شخص: أبيعك هذا! -هو ليس عنده، وليس في بستانه- فيقال له: وإذا بعته فمن يسلمه؟! إذاً: هذا غرر؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.

كذلك إذا كان لك عبد، فأبق عليك: هرب، فقال: أبيعك العبد الهارب، قلت: أين هو؟ قال البائع: والله ما أدري أين محله! لكن إذا علم مكانه، والمشتري يرى أنه قادر على الذهاب إليه، والقبض عليه، وأخذه، يقول الحنابلة يجوز هذا ما دام المشتري قادراً على أخذه، طيب، كان يظن القدرة فعجز، ماذا يفعل؟! يرجع على البائع! ولو اغتصب شخص سلعة: طيراً، عبداً.

إلخ، والمالك لا يستطيع أن يخلص السلعة من يد الغاصب، فلا يجوز له أن يبيعه؛ لأن المشتري يريد السلعة، والسلعة في يد غاصبها، والبائع لا يستطيع أن يخلصها منه، إلا إذا جاء إنسان وقال: أنا قادر على تخليص المغصوب من يد غاصبه، بعنيه، فقال البائع: والله ما دام أنك قادر، نعم أبيعك، وباعه على من يقدر على تخليصه من يد غاصبه، حينئذ يصح البيع، طيب، وإذا عجز المشتري عن تخليص السلعة من يد الغاصب! يذهب يشتكي، فإن استطاع بشكواه لولي الأمر الحصول على السلعة، فالبيع ماض على ما كان عليه، وإن عجز، وولي الأمر لم يستطع أن يلزمه بإحضاره؛ حينئذ يرجع المشتري على البائع، وكل ما أوجب، أو أدى إلى عدم القدرة على التسليم فهو غرر، فلا يجوز البيع.

من الدواهي الموجودة الآن، وأطبق عليه الجميع، واستحلوا بذلك الحرام، ما تجده في معارض السيارات التي سببت ملء السجون بالمدينين ببيع التقسيط، فيأتي عند البيع ويقول: (بعتك سكراً في ماء) ، (ملحاً في ماء) ، (كومة حديد) ، وهو يعلم بأن فيها بعض العيوب، ولكن يخفيها، ويأتي بتلك العبارات، والمشتري يقول: قبلت، قبلت، قبلت، ويظن أن هذه عبارات وهمية، لكن الحقيقة قد يكون فيها عيب؛ ولذا قال مالك: من باع على البراءة الأصلية لا يصح بيعه، لو قال: أبيعك على أنها بريئة من كل عيب، فإن كان يعلم فيها عيباً، وكتمه فهو آثم، فإن اطلع عليه المشتري، فله ردها عليه؛ لأنه دلس عليه وغره بكتمان العيب.

إذاً: هذه المبيعات يعلم أن فيها عيوباً ما، وأهل السيارات يعرفون العيوب الخفية والدقيقة: من تسرب الزيت.

إلخ، والمسكين الذي يشتري لا يعرف هذه الأشياء، وما يدري عنها، تقول له: اذهب وانظر، فيذهب إلى مهندس واحد، وقد يخفى عليه شيء، ويعلم أشياء، فكل من دس وأخفى عيباً، -وسواء كان يعلم وجوده أو لا يعلم- فتبين المشتري ذاك العيب، فإن له أن يرد السلعة؛ لأنه قد غره، وغشه، ودلس عليه، فالبيع باطل، وتحت هذا صور عديدة.

وكذلك قد يقع الغش والتدليس في أعمال المقاولات والبناء، فمثلاً: يتفق صاحب العمل مع أحد المقاولين على مواصفات معينة، ويحدد له النسب والمعايير المطلوب تنفيذها، والسير عليها، وهنا قد يستغل المقاول جهل صاحب العمل بكيفية تطبيق تلك المواصفات؛ فيغش ولا ينفذ المتفق عليه، ومن هنا قد يلجأ أرباب الأعمال إلى الاستعانة بمشرف فني يعرف أعمال البناء ليشرف على المقاول في تطبيق الاتفاقية، والمشكل إذا اتفق المشرف مع المقاول على صاحب العمل! فهذه مصيبة أخرى!