للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل]

وننتقل إلى القضية من حيث هي، ولا نقول: ما حقيقة الأمر؟ وما الحكمة والغرض من وراء ذلك؟ لا نقول ذلك؛ لأن هذا تحكم على الشارع، فقد تكون هناك حكمة غابت عنا لا ندركها ابتلاءً وامتحاناً؛ لأن التشريع كله ابتلاء كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:١-٢] إذاً: قد يكون الحكم ابتلاءً، وهنا لا نقول: الحكمة كذا، ولا نقول: الغرض وراء ذلك كذا، ولا السبب في هذا هو كذا؛ وإن كان بعض الفقهاء قد قال: الوضوء من لحوم الإبل إنما هو لشدة زهومته وزفره؛ لأنه أشد زهومة من لحم الغنم.

فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء.

والذي يمكن لإنسان متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) وهل النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان) يقول العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه، بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء.

وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان) فخلقت من الشيطان، أو معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان.

وإذا جئنا إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ذلك) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء) فإذا كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء.

إذاً: هناك ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل.

وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن.

وأن.

إلخ.

ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل لماذا؟! فأجابوا وقالوا: إن الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة ولذا قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً، أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته، وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر، فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها، أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش.

إذاً: فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة والإهانة.

وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان: إن كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم.

إذاً: نرجع ونقول: اللحوم وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة) فصاحب الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة.

إذاً: هناك فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة -لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر: للحم خرمة.

أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من الشيطان كان إطفاؤه بالماء.

وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل.

وبالله تعالى التوفيق.