للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم]

قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) أخرجه مسلم.

وللبخاري: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـ مسلم: (منه) ، ولـ أبي داود: (ولا يغتسل فيه من الجنابة) ] .

هذه أخبار تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالماء الدائم.

وقسم يتعلق بالاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.

والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم جاء بالإطلاق، وجاء بقيد الجنابة، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم يصدق على البركة وعلى الغدير، وكل ماء كثير على حد الأئمة الثلاثة الذين اعتبروا القلة والكثرة، ولماذا لا يغتسل فيه؟ قال بعض العلماء: نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم لا لذات الجنابة، وقال بعضهم: بل لذات الجنابة؛ لأن الماء إذا رفعت به الجنابة تنجس، وهذا قول عند الأحناف كما في فتح القدير، وهو أن الماء الذي يرتفع به حدث أصغر أو أكبر لا يجوز استعماله، وهو نجس، ويقولون: إن الحدث وقع في الماء بعد أن أزال الحدث ورفعه، فلو توضأت في طست، وتجمع ماء الوضوء في نفس الطست، فهذا الماء عندهم متنجس؛ لأنه نقل الحدث من الأعضاء إلى الماء.

والجمهور يقولون: إن الحدث أمر معنوي لا تلحقه الصفات الحكمية من نجاسة أو غيرها.

وقال بعضهم: لأنه يتنجس بكثرة رفع الحدث ونزوله فيه بالوضوء والاغتسال.

وقال قوم: طبيعة الإنسان -غالباً- أنه إذا نزل إلى الماء ليغتسل وانغمس فيه، فإنه يخرج منه البول ولا يستطيع رده، فبتعدد الاغتسال يكثر البول في هذا الماء فينجسه، فقيل لهم: هذا ماء كثير فكيف ينجسه البول؟ قالوا: بتنجس مع طول الزمن.

وقال آخرون: لأنه يستقذر، فإذا بلت فيه، وجاء الثاني وبال فيه، فبعد هذا كيف تشرب منه؟! وكيف تتوضأ منه؟! فالنفس تشمئز من هذا، إذاً: هذا نهي كراهة وتنزيه، وليس نهي تحريم.

وكذلك قوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) .

فالماء الدائم منهي أن تبول فيه أو تغتسل فيه من الجنابة، وقوله: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) نهي عام يشمل كل ذي جنابة أن يغتسل منه، ولكن هنا قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ، فهذا نهي موجه للإنسان أن يجمع بين الأمرين: البول والاغتسال، فلو لم يرد أن يغتسل فهل يجوز له أن يبول؟ لا يجوز، فلو أن اثنين أحدهما بال في الماء، فيقال له: لا تغتسل؛ بسبب بولك فيه، والشخص الثاني الذي لم يبل له أن يغتسل ويتوضأ؛ لأنه لم يفعل سبب النهي، ويتعجب بعض العلماء من المغايرة بين الشخصين، ويقولون: إن كان النهي عن البول في الماء لنجاسة أو لاستقذار، فكما يجري هذا على الذي بال فينبغي أن يجري على الذي لم يبل، وقالوا: إن النهي للكراهة لا للتحريم، ليبقى الماء طاهراً مدة أطول، حتى لا يطول الزمان ويكثر البول فيفسد الماء.

وهناك من يقول: النهي عن ذلك من ناحية طبية؛ لأن الماء الذي لا يجري، وهو ما يسمى المستنقعات، تنشأ فيها بعض الأشياء، فتحمل بعض الجراثيم التي تنتقل عند البول فيه أو عن طريق الأظفار في القدمين فتصيبه بالمرض، ويذكرون أن البلهارسيا والكلستوما وغيرهما تكثر في مستنقعات المياه، وكانت توجد في المنطقة الشرقية أكثر من غيرها قبل أن تنظم فيها قنوات الري.

فقال بعض العلماء: هذا ماء كثير نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تخالطه النجاسة ولو لم تغير أوصافه؛ لأنه لا يجري بل هو دائم في مكانه، فإنه لو طال الزمن وكثرت هذه الحالة؛ فقد يفسد عليهم الماء ولو كان كثيراً.

والجمهور على أن النهي للكراهة، وابن حزم ينكر عليهم قولهم أنه للكراهة، ويقول: هذا نهي صريح، ولا يوجد ما يصرفه إلى الكراهة، بل هو للتحريم، ومن بال لا يصح وضوءه من ذلك الماء.

وجاء في رواية: (منه) وفي رواية: (فيه) ، والمعنى: أنه لو بال في هذا الماء فلا يتوضأ ولا يغتسل منه، أي: لا يأخذ ماء ويتوضأ أو يغتسل بعيداً من الماء الراكد، وكذلك إذا بال في هذا الماء فلا ينزل وينغمس فيه ويغتسل، ولا يتوضأ فيه.

وقال بعضهم: هذا التوجيه هو للآداب والأخلاق والنزاهة، ونظيره الحديث الذي فيه: (لا يجلدن أحدكم زوجه جلد الأمة ثم هو يضاجعها) ، أي: أنه الآن يضربها وكأنها عدوة له، وكأنها ليست لها قيمة عنده، ثم بعد فترة يجد نفسه مضطراً إلى أن يضاجعها، ففي حالة المضاجعة أين ذهب الضرب؟ وفي حالة الضرب أين ذهبت المضاجعة؟ فعليه أن ينظر إلى العاقبة، فإذا أردت أن تضرب فلا تنسى حاجتك إليها في المضاجعة، فليكن الضرب برفق، وكذلك هنا لا يبل ثم هو يغتسل؛ لأن هذا مستنكر، فكيف تبول فيما تحتاج أن تشرب منه وتغتسل فيه؟! كما أنه كيف تضرب من تحتاج إلى مضاجعتها؟! فهذا نظير ذاك، فالنهي للكراهة وليس للتحريم، والله تعالى أعلم.

إلى هنا نكون قد انتهينا من تقسيم العلماء للماء، واعتبار الكثرة والقلة، وذكرنا القسم الطهور المجمع عليه، والمتنجس المجمع عليه، وذكرنا القسم الوسط، وهو محل البحث، وهو القليل الذي خالطته النجاسة ولم يتغير بها.

والخلاصة: أن الإمام مالكاً ينظر إلى الأوصاف، ولم ينظر إلى قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة رحمهم الله ينظرون إلى الأوصاف مع الكمية، قلة أو كثرة، فإن كان قليلاً ووقعت فيه نجاسة فهو نجس ولو لم يتغير، وإن كان كثيراً فهو طاهر ما لم يتغيّر، وبالله تعالى التوفيق.