للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحكام إحياء الموات بحفر الآبار]

[وعن عبد الله بن مغفل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً عطناً لماشيته) رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف] .

إذا كانت إحاطة الأرض إحياء على من يقول بأن الإحاطة إحياء، أو اختصاص على قول من يرى أن التحجير اختصاص، فيأتي بنوع آخر من أنواع الإحياء، وهو: حفر البئر، وبعض الفقهاء يقول: وإجراء النهر، إذا كان هناك مسيل دائم، أو نهر، أو عين فوارة عامة، وجاء واحتفر بئراً من هذا السيل، أو أجرى عيناً إلى أرض موات يزرع عليها، فهذا إحياء؛ لأن مجيء الماء إلى الأرض الموات ليسقيها ويزرع عليه فيه دوام للحياة، بخلاف التي تزرع على الأمطار، والتي تسمى بعلية؛ لأن صاحب البعلية قد يتركها ويأتي فيما بعد ويزرع بعلية أيضاً وهكذا، أما صاحب البئر فلا يتركه.

(من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً) الذراع قسمان: ذراع باليد، وذراع اصطلاحي، وهو الذي يسمى الذراع المعماري، والعرف عند الناس أن الذراع المعماري خمسة وسبعون سنتيمتراً، والآخر يعدل اليد من المرفق إلى آخر الأصابع، وقد يستعمل هذا في قياس القماش ونحوه، ويستعمل ذاك في قياس الأراضي والعقار إلى غير ذلك حسب العرف المتبع.

(من حفر بئراً) ، أي: واستنبط ماءه، أما إذا حفره ولم يحصل منه على ماء فليس له شيء؛ لأنه يتركه عجزاً عن الوصول إلى الماء، ولو حفر مائتي متر، وقد يوجد في بعض البقاع على بُعد مترين فقط ويحصل على الماء، وهذا بحسب اختلاف التربة، وحسب اختلاف المياه، فالبلاد ذوات الأنهار التي تجري دائماً تكون الأرض فيها مشبعة بالماء بما يتسرب من الأنهار تحت الأرض، إلى غير ذلك من أنواع التربة وقرب الماء وبعده.

(من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً) : الأربعون ذراعاً تكون قطر الدائرة للبئرِ.

وأحمد رحمه الله يقول: له خمسة وعشرون ذراعاً، وهو يقول بذلك مستنداً إلى رواية أخرى فيها خمسة وعشرون، وهم كلهم متفقون على أن الآبار قسمين: بئر عادية، وبئر محدثة.

والبئر العادية: أي: القديمة، نسبة إلى عاد، والعرب تنسب كل قديم إلى عاد؛ لأنها كانت قوية ومضى عليها زمن بعيد؛ فينسب كل ما كان بعيد التاريخ أنه من عاد، وهكذا كما يقولون: عبقري، نسبة إلى وادي عبقر؛ لأن العرب تزعم بأن وادي عبقر هو مسكن الجن، والجن أصحاب الأفكار أو الرؤى البعيدة، فينسبون كل ذكي إلى وادي عبقر، فيقولون: فلان عبقري، فهنا البئر العادية، أي: القديمة.

والقديمة هذه ما شأنها؟ تكون موجودة من قديم، ثم إن السيل والهوام وعوامل التعرية طمستها واختفى ماؤها، فيأتي إنسان ويجدد حفرها ويخرج منها الفضلات حتى يصل إلى مائها، فهو أحياها بذلك، فهذه العادية لها خمسون ذراعاً، أما الجديدة المستحدثة -كما يقال: البئر الإسلامية- التي احتفرها أهل الإسلام فهذا الحديث يقول: لها أربعون ذراعاً، لماذا تكون دائرة قطرها أربعون ذراعاً؟ حتى تكون معطناً لإبله، تسرح وتطلب المرعى وتبعد اليوم واليومين وترجع بعد الثلاث والأربعة الأيام ما شربت ثم يوردها صاحبها على بئره هذا، فلابد لها من مكان يجمعها وبروكها وعطنها إلى أن تشرب وتنزح عن البئر.

فمن حفر بئراً أحياها، وأعطي أربعون ذراعاً كحريم للأرض، وإن كانت قديمة وجدد إحياءها فلها خمسون ذراعاً؛ لأن العادة في القديمة أن يكون ورادها أكثر، وعلى هذا من حفر بئراً استحق ملكها وملك حريمها معها.

أما إذا كان في وسط قرية والأملاك متواصلة ومتحادة ويفصل بعضها عن بعض بما لا يزيد عن ذراع أو نصف ذراع، فحفر بئراً في ملكه فلا يتعدى ملكه شبراً واحداً؛ لأن ما حوله هو أملاك سابقة، فلا يتملك ملك الغير بحفر بئر في أرضه، حتى لو وجدت أرضاً فارغة وسط أراضي القرية وكانت مساحتها عشرة أذرع فقط فليست لك إلا هذه المساحة، ولا يتجاوز الأرض الفضاء ويتعدى بحفر البئر إلى أراضي الآخرين.

ومن أنواع الإحياء أيضاً: أن يجري الماء ببئر أو نهر أو عين ثم يغرس على هذا الماء، والغرس الثابت من عوامل الإحياء، يغرس نخلاً أو ليموناً أو عنباً أو أي شجر مثمر فهو إحياء، وهنا في الغرس لا تحديد عليه، لا يقال: أربعون أو خمسون بل بقدر ما يستطيع من غرس الأرض ما لم يتعد ملك الغير، فإذا كانت هناك أراضي محياة ويمتلكها أشخاص آخرون وجاء إنسان ليحيي أرضاً بجوارهم فليس له أن يتعدى عليهم، كما تقدم: (وليس لعرق ظالم حق) ، بأن يجد إنساناً كان متحجراً أرضاً، فبدأ يحيي فأحيا جانباً وبقي جانب آخر، فجاء إنسان ليحيي بجواره، لا يحق له أن يتجاوز أرضه إلى الجزء الباقي في التحجير لغيره؛ لأنه من اختصاص الغير، وهكذا الغرس والزراعة ونحو ذلك ليس فيها تحديد، فإذا عجز عن إحياء ما حجره فعلى الإمام أو ولي الأمر أن ينذره: إما أن تحيي وإما أن ترفع يدك.

إذاً: من أنواع الإحياء، بناء الحائط، حفر البئر، غرس الشجر، بناء البيت للسكنى بأقل ما يمكن أن يقال عنه سكن، فلو أنه جاء داخل هذا الحائط وبنى غرفة يمكن أن يسكنها بقدر ذلك ولو لم يوجد فيها مرافق السكن العادية من دورة مياه أو مطبخ، فلا بأس؛ لأن العرب وعامة الناس في البادية لا يألفون ذلك، بل إنهم يأنفون أن يجعلوا دورة المياه معهم في سكناهم.

وفي أول الإسلام كان النسوة يخرجن بالليل إلى الخلاء، ويستأنفون أن يجعلوا ذلك في بيوتهم استئنافاً واستقذاراً، ثم بعد أن كثر الناس وشاع أمر خروج النسوة اتخذن بيوت الخلاء في بيوتهن، وألفوا ذلك وتغير الوضع.

فإذا بنى في هذا الحائط غرفة واحدة أو ما يصلح لسكناه ويعتبر سكناً وافياً بالنسبة إليه، فيكون ذلك إحياء يتملك به.