للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترغيب الشرع في تحرير الرقاب]

في قوله: (وفي الرقاب) ، ترغيب لتحرير الرقاب، وقد أشرنا مراراً أن الرق في الإسلام يتميز عن جميع طوائف العالم، وأشرنا أن قانون الرق في أوروبا كان ينص على منع السيد من عتق رقيقه إلا بإذن الحاكم، وكان يستوجب أسر الأفراد لأوهى الأسباب، أما الإسلام فلم يجز استرقاق الإنسان إلا في أرض المعركة حينما يحاد الله ورسوله، ويقف سداً منيعاً أمام زحف الإسلام إلى الناس فيؤخذ أسيراً، ثم باب الأسر واحد، أو كما يقال: باب الورود واحد فقط، وهو أرض المعركة، بينما أبواب الخروج متعددة، فإذا كان الورود من باب واحد والخروج من أبواب متعددة فهل يبقى في البيت أحد؟ لا يبقى أحد بخلاف العكس، لو كان أبواب الورود متعددة والخروج من باب واحد، فسيحصل زحام وأزمة، أو كما يقولون: خطر سوء التفريغ، ولذا فمن أول حساب الهندسة المعمارية عند بناء المسجد أو المعهد أو الكلية، أنه لابد أن يعمل حساب الأبواب للخروج، حتى لو حصلت أزمة مفاجئة استطاع الموجودون الخروج بسرعة، أما إذا كان هناك باب واحد، وهناك ألف نفر، فمتى يخرجون؟ سيقتل بعضهم بعضاً في الزحام، لكن لو عمل خمسون باباً فسيخلو المكان بسرعة.

فنجد جميع الكفارات فيها عتق، مثل كفارة اليمين، والظهار، والوطء في رمضان، وقتل الخطأ، وتبدأ الكفارة -سواءً كانت على الترتيب أو التخيير- بعتق رقبة.

ثم نجد الترغيب في عتق نفسه من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) ، بل قد يكون العتق إجبارياً على الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شقصاً من عبد مملوك، فخلاصه عليه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه) ، يعني: قوم عليه الشقص الثاني، وقيل له: ادفعه لشريكك، ويصبح العبد حراً، فإن قال: أنا أعتقت النصف فقط، فيقال له: مادام قد أعتقت النصف فقد فتحت الباب، فأكمل، ويُجبر على عتقه كاملاً.

ومن لطم عبده فكفارته أن يعتقه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فعظم ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلا أعتقها؟ قال: (ائتني بها.

قال: فجئته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة) .

فالشريعة تتلمس الأسباب للعتق، بخلاف القوانين الأخرى، فإنه يشمئز الإنسان أن يوردها، كانوا يبيحون لأنفسهم إطلاق السباع الجارحة المفترسة على العبد في ميدانٍ ليتفرجوا كيف يفترسه الأسد! ولا أحد يمنعهم من ذلك، والقانون يبيح لهم ذلك! وهذا لطمها في حالة غضب أسفاً على الشاة التي أكلها الذئب، فيتأسف ويسأل عن عتقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (اعتقها) .

وهذا عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير، أخذ أسيراً يوم بدر، ولما قدموا به إلى المدينة، مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (استوصوا بالأسارى خيراً) ، قال: فكانوا يقدمون إلي الخبز، ويجتزئون هم بالتمر، حتى كنت أستحي منهم فأردها عليهم فيردونها عليّ.

فأي إكرام؟ وأي معاملة بالحسنى إلى هذا الحد؟ ومر عليه مصعب أخوه، فقال: شدوا وثاقه فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم، فنظر إليه وقال: هذه وصايتك بي يا أخي! قال: لست أخي، إنما إخوتي هؤلاء المسلمون.

والذي يهمنا أنهم كانوا يقدمون له الخبز، وهم يأكلون التمر عملاً بوصية رسول الله: (استوصوا بالأسارى خيراً) .

وعمر رضي الله تعالى عنه جعل حصة من وقفه للرقاب.