للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً

قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً) .

والجعل: التصيير، تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الخشب باباً، وجعلت الطحين خبزاً، والأرض موجودة من قبل، ولكن الجعل منصب على الوصف الطارئ، و (الأرض) جنس -كما يقولون- الكوكب الذي نعيش عليه، و (أل) هنا للاستغراق، فتشمل جميع أجزاء الأرض مشارقها ومغاربها، شمالها وجنوبها، أعلاها وأسفلها، وكلمة (لي) مفهومها أنها لم تجعل لغيره، وقوله: (مسجداً وطهوراً) هل المسجد والطهور خصلة واحدة؟ التحقيق في العدد أنها خصلة واحدة؛ لأننا لو عددناهما خصلتين لكان المذكور في الحديث ست خصال، والمذكور في الحديث في الجملة خمس، وهذا من الأساليب النبوية، وهو الأبلغ، أن تذكر القضية مجملة ثم يفصل في أجزائها.

و (مسجِد) على وزن مفعِل، من سجد يسجد فهو مسجد، على خلاف القياس، وهو موضع السجود، كمجلس، يقال: هذا مجلس زيد أي: مكان جلوسه، وهذا مسجد زيد أي: مكان سجوده، وهل المراد بالمسجد هنا المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي؟ بمعنى هل المراد أن يجوز أن يبنى المسجد في أي جزء من الأرض، أم المراد أن جميع أجزاء الأرض مسجد بمعنى موضع للسجود، ولو لم يكن هناك مسجد مبني؟ المعنى الثاني أعم، وكأن الأرض كلها مسجد كبير جداً في جميع أجزاء الأرض.

وقوله: (وطهوراً) ، والأرض تكون طهوراً، وكلمة (الأرض) تشمل جميع طبقاتها، والأرض أنواع كما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثلي ومثل ما بعثني الله به من الحق كمثل أرض خصبة شربت الماء وأنبتت، وأرض قيعان لم تمسك ماءً ولم تنبت كلأ، وأرض أمسكت الماء ولم تنبت واستفاد بها غيرها) ، فقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، يعم كل أرض، وسيأتي بيان هذا الطهور وكيف نتطهر بالأرض.

إذاً: التعميم هنا والمجيء بـ (أل) وهي لجنس الأرض، أخذ العلماء من ذلك أن طهور الأرض يصلح بكل أنواع أجزائها، سواء كانت رملاً، أو حصى، أو صخرة ملساء، أو أرضاً طيبةً منبتة، أو غير ذلك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، كما تصح الصلاة في جميع أجزاء الأرض، سواء كانت صخرة ملساء، أو رملاً بيضاء، أو حصوة، أو حجارة، أو حتى على رأس جبل فإنه تصح الصلاة فيه، وكذلك تصح الطهارة منه، وهذا هو ما أخذ به من يقول بأن التيمم يصح أن يكون على جميع أجزاء الأرض.

وقوله: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، (أي) من صيغ العموم، و (ما) هنا موصولة وهي من صيغ العموم، فتعم كل رجل وكل امرأة (أدركته الصلاة) في أي بقعة من بقاع الأرض، (فعنده مسجده وطهوره) مسجده أي: الذي يصلي فيه، وطهوره الذي يتطهر للصلاة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل) أي: من أمته، فالأمم الماضية ما كانت تصح لهم الصلاة في عموم الأرض؛ لأن هذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه ولأمته معه، وكان الأنبياء والأمم من قبل لا تصح صلاتهم إلا في أماكن العبادة، سواء كانت البيع، أو الكنائس، أو مواطن العبادة التي تختص بهم، أما عموم الأرض فلم يرخص لهم فيها، وجاءت هذه الأمة فكانت صلاتها تصح في المساجد التي بنيت للصلاة، وتصح في أي جزء من أجزاء الأرض، فأيما رجل أدركته الصلاة في سفر أو في حضر، وليس عنده مسجد فعنده مسجده، أي: وجه الأرض، وإذا لم يجد الماء فعنده الأرض يتطهر بها ويصلي عليها، أي: أنه لا يعفى أي رجل من أداء الصلاة، فلا يقول: لا يوجد مسجد، فعنده مسجده، ولا يقول: ليس عندي ماء أتوضأ، فعنده طهوره.

إذاً: لا عذر لأي رجل كان في أي بقعة كانت أن يترك الصلاة لعدم وجود مسجد مقام، أو لعدم وجود ماء يتطهر به، فعنده في أي مكان كان مسجده وهو وجه الأرض، وعنده طهوره الذي هو جزء الأرض المكشوف لنا.

وقوله: (فأيما رجل) تلحق به المرأة أيضاً، فلو أن عائلة بكاملها رجالاً ونساءً، أو قبيلة في رحلة، أدركتهم الصلاة ولم يجدوا الماء، فإن الجميع رجالاً ونساءً يتيممون ويصلون.