للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشفاعة العظمى]

قال صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة) ، الشفاعة هنا جنس عام، وأصل الشفاعة: من الشفع، والشفيع يأتي مع الشخص المفرد فيجعله شفعاً، فإن الشخص وحده وتر فرد، فإذا ضم إليه من له حاجة إليه فإن هذا الذي جاء معه يشفعه، فصار هو والذي جاء شفعاً وليس وتراً، والشفيع: هو الذي يأتي مع المشفوع فيه فيكون شفعاً معه.

وعرفاً: هو الذي يسأل من عنده الحاجة للمشفوع له، وغالباً يكون الشفيع أو الشافع ذا منزلة عند المشفوع عنده؛ لأن الشخص بذاته قد لا يعنى به من عنده الحاجة، وإذا أتاه قد لا ينظر إليه أو لا يقضيها له، فإذا أتاه من له مكانة عنده ربما قضى حاجة المشفوع له بموجب وجود الشافع الذي أتى معه.

والشفاعة يوم القيامة: هي أن يشفع الشافع في غيره، إما بعدم دخول النار وقد استحقها، وإما بدخول الجنة وهو لم يستحقها، وإما بإخراجه من النار وقد دخلها.

والشفاعة من حيث هي بهذه الصفات يشارك فيها الكثيرون، فالعالم يشفع في جيرانه وفي أهله، والطفل يشفع في أبويه، والشهيد يشفع في سبعين من أهله، فهناك من الأشخاص من يعطيهم الله حق الشفاعة في الأفراد.

ولكن الشفاعة هنا للجنس، وإذا أطلق الجنس انصرف إلى أكمل أفراده، يقال: جاء الرجل، والرجل هو إنسان في مقابل المرأة، لكن إذا أطلق وقيل: جاء الرجل، فالمعنى: الأمثل في الرجال الذي ينصرف إليه الاسم كعلم عليه لتميزه، وقد يكون نسبياً، فيقال: جاء الرجل الشجاع، جاء الرجل الكريم، جاء الرجل العاقل، وذلك إذا كنا في قضية حول الشجاعة والجبن، وحول الكرم والشح، وحول الحلم والغضب، فيقال: جاء الرجل، أي: الرجل الذي هو أحق بهذه الصفة عند الناس.

واسم الجنس قد يكون علماً للغلبة على فرد، مثل كلمة (المدينة) ، فإذا أطلقت المدينة التي هي في أصل اللغة نكرة ودخلتها (أل) التعريف، فيراد بها المدينة المنورة، مع أنها تصدق على كل مدينة من مدن العالم، ولكن أصبحت علماً على المدينة المنورة.

وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت الشفاعة) ، تصرف الشفاعة عند الإطلاق على أعلى فرد من أفراد الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى.

والشفاعة المذكورة هنا هي الشفاعة التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل والأنبياء وجميع الخلق، وهي ما يسمى عند العلماء: بالشفاعة العظمى، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة، وتدنو الشمس من الرءوس بقدر الميل، ويشتد الأمر بالناس، حتى يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون مجيء الرب لفصل القضاء؟ ألا تجدون من يشفع لنا؟ فيذهبون إلى أبي البشر آدم عليه السلام ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما نحن فيه؟ اذهب فاشفع لنا عند ربك ليأتي لفصل القضاء، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولقد نُهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها؛ فإني أستحي أن أسأل ربي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، وأنت وأنت وأنت.

فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الله، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، فيقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فيقول: أنا لها أنا لها) .

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، وقد تعجل كل بني بدعوته على قومه في الدنيا، -قال: (وأنا ادخرت دعوتي إلى يوم القيامة) ، فاخرها لذلك اليوم، يقول: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعلمها) ، ونحن نذكر في الدعاء: (اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فهناك يعطي الله رسوله في ذلك المقام مما استأثر به في علم الغيب عنده، فيحمد الله بتلك الأسماء في ذلك المقام، وهي المناسبة لذلك لهذا الموقف الحرج الشديد، إلى أن يقبل الله منه فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) ، فيسأل المولى سبحانه المجيء لفصل القضاء، أو أن يعجل فصل القضاء.

وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعده الله، والذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسألها من الله له عندما قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا هو) ، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى؛ لأنها تشمل جميع الأمم وجميع من في الموقف.

إذاً: الشفاعة في قوله: (وأعطيت الشفاعة) وإن كانت اسم جنس عام إلا أنها تصرف لأعلى أفراد الجنس، وبقية الشفاعات يذكرون أنها سبعة أنواع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن لا يستحق الجنة فيدخلها، ويشفع ثلاث أو أربع مرات لمن دخل النار بالفعل أن يخرجه الله منها، كما في الحديث: (يا رب! أمتي، فيقول: اذهب فأخرج من تعرف من أمتك من النار) ، وفي بعض الروايات: (فيحد لي حداً في النار ويقول: اذهب فأخرج من وجدت من أمتك في النار) أي: في هذا الحد، ثم يرجع مرة ثانية وثالثة وهكذا.