للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإسفار بصلاة الفجر والتغليس بها]

قال المؤلف: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .

تقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، و (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فكان من شأنه ومن سنته ومن منهجه وفعله المستمر أن ينفتل من صلاة الغداة -وهي الصبح- حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة؛ ومتى كان يبدأ صلاة الفجر إذا كان عند نهايتها بعد أن يقرأ الستين أو المائة يعرف الرجل جليسه؟ كان يبدأ بها في الغلس، أي: أول انبلاج الفجر.

وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح) ، وفي رواية: (أسفروا) .

أصبحوا بالصبح، أي: ادخلوا في الصبح، وقوله: أسفروا هو: من الإسفار، وهو النور، ومنه سمي السفر سفراً؛ لأنه يكشف وينير عن حقيقة الإنسان في سفره، فالإنسان في حالة إقامته قد تكون أخلاقه فاضلة، فعنده حلم وكرم ومساعدة وتسامح، لكن إذا كان في السفر تأتي المشقة والتعب، فبعض الناس لا يراعي إلا راحة نفسه، ولا يراعي الآخرين، فالسفر يسفر ويكشف عن حقيقة الأشخاص وطبائعهم؛ لأنه يُظهر الشخص على حقيقته، فهنا يقول رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا، أو أسفروا) ، وظاهره أن الصلاة يستحب تأخيرها! وهذا متعارض مع حديث: (كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه) ، مع أن قراءة النبي عليه الصلاة والسلام كانت بالستين إلى المائة، فأيهما أرجح؟ الشوكاني رحمه الله تكلم على حديث: (أصبحوا) وبين أنه في بعض طرقه ضعفاً، وذكر أنه لا ينهض لمعارضة ما هو أقوى منه، ويدل على صلاة الفجر وقت الغلس حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف من صلاة الصبح، ونسوة الأنصار في المسجد فلا يعرفن من الغلس) ، والغلس هو الظلام.

إذاً: الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلس بالصبح أكثر وأقوى من حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ، ثم بعضهم يقول: إن حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ليس معناه: أخروا صلاة الصبح حتى يحصل الإسفار ويأتي الصبح، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يدخل في صلاة الصبح بغلس ويُطيل القراءة حتى لا يخرج منها إلا مسفراً أو مصبحاً، ولكن قد يكون في ذلك مشقة، وهو عليه الصلاة والسلام كان يراعي حالة من خلفه، فمن أمّ الناس فليخفف، ولكن ربما فعل ذلك مرة أو أمر بذلك لبيان الجواز، ولكنه داوم على ما هو الأفضل، فكان يغلس بها.

وعلى هذا جمهور المسلمين وأكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، فعندهم أن صلاة الصبح تصلى من أول انفجار الفجر بغلس، والإمام أبو حنيفة رحمه الله أخذ بحديث رافع، ورأى أن تأخير الصبح إلى الإسفار أعظم للأجر وأفضل، فالمسألة دائرة بين أن نسفر بها أو نغلس بها، وأكثر الأحاديث على التغليس بها، وهو أن تصلى الصبح في أول وقتها بغلس، والله تعالى أعلم.