للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشروعية الأذان]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (طاف بي وأنا نائم رجل فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، فذكر الأذان -بتربيع التكبير من غير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة- قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق ... ) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة] .

لاحظوا ترتيب المصنف في التبويب، فإنه بعدما أنهى أحاديث توقيت الصلوات الخمس، جاء بباب الأذان، فكأنه يقول: إذا دخل الوقت جاء الأذان، وإذا أذن جاءت الإقامة، وإذا أقام جاءت الصلاة، وهذه صفتها وكيفيتها.

والأذان لغة: الإعلام، وكل كلمة وجدت فيها: الهمزة والذال والنون فاعلم أنها من مادة الأُذن، وفقه اللغة يقول: إن أصل وضع اللغة للمحسوس ثم يتفرع عنه إلى المعنوي، فالأُذن هي مادة أذن، وكلما سمعت بكلمة مركبة من هذه الحروف فاعلم بأن فيها إعلام.

تقول: الآذن والمأذون، الآذن هو الذي يُلقي في أذن المستأذن الإذن بالدخول، وتقول: هذا مأذون وهذا آذن، أذنت لك في كذا، آذني في كذا، وقال الشاعر: (آذنتنا ببينها أسماء) .

يعني: أعلمتنا وأنذرتنا، وهكذا أصل مادة الأذان من الأُذن؛ لأن المتكلم يلقي في أذن السامع ما يريد أن يلقيه، فكان الأذان إعلاماً، وهو في الشرع: إعلامٌ مخصوص بلفظ معين في وقت معين.

وشرع الأذان بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانوا في بادئ ذي بدء يعلم بعضهم بعضاً بالوقت، فإذا مر إنسان على بيت آخر قال له: جاء الوقت، وهكذا يمر بعضهم على بعض، فيُعلم بعضهم بعضاً بدخول الوقت حتى يجتمعوا إلى المسجد، فإذا دخل الوقت يصلون.

ثم اجتمعوا وتشاوروا ليروا وسيلة مناسبة ليعلموا بها دخول الوقت، فقال بعضهم: (نتخذ ناقوساً، فقال صلى الله عليه وسلم: الناقوس للنصارى، وقال بعضهم: ننفخ بوقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: البوق لليهود، وقال بعضهم: نوقد ناراً، فقال صلى الله عليه وسلم: النار للمجوس) ، وإيقاد النار إعلام سريع، فهو مثل البريد أو المواصلات، وكان يمكن أن يصل الخبر من الحجاز إلى العراق عن طريق النار في ربع ساعة، وقد كان الناس في الحالات الخطيرة الهامة، إذا كانوا ينتظرون جيشاً مغيراً أو ينتظرون قدوم أمر خطير؛ يجعلون المنارات على رءوس الجبال، وفيها موضع يوقد فيه النار، وتعلمون مدى سرعة الضوء، فسرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت، فإذا وصل الخبر المدينة أشعل صاحب المدينة النار في منارته، وهكذا الذي يليه، وليكن بينهما -مثلاً- مائتا كيلو، فإذا رأى النار فإنه حالاً حينما يرى ضوء النار من المدينة يشعل النار عنده، وحينما يشعل النار عنده يرى الآخر ضوءها ولو من بعد مائتا كيلو أو أكثر من ذلك فيشعلها، وهكذا حتى يصل الخبر بإشعال النار إلى بغداد مثلاً، وذلك قد يكون في نصف ساعة، وهذا أسرع من الطائرة، وأسرع من الصاروخ.

المهم أنهم عرضوا وسائل الإعلام، وكلها أعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مشهورة عند كافرين، ونحن قد أُمرنا أن نخالفهم، لا أن نسير في ركابهم، بل لا نشابههم في شيء، فانصرفوا ولم يتفقوا على شيء، فجاء عبد الله بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم، ولم أكن بنائم) أي: هو في حالة بين كونه نائماً وغير نائم، وهذه حالة قد تعرض لبعض الأشخاص، فيرى بعض الأشياء وهو في أوائل النوم، ولم يتمكن النوم منه، ولم يكن مستقيظاً تمام الاستيقاظ، بل يكون في حالة بين بين، قال: (رأيت فيما يرى النائم، ولست بنائم، رجلاً عليه بردين أخضرين يحمل ناقوساً، فقلت: هل تبيع لنا هذا الناقوس؟ قال: وماذا تفعلون به؟ قلت: نعلم به للصلاة قال: ألا أدلك على غير ذلك؟ قال: بلى، فألقى عليه الأذان -كما هو معروف الآن- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون -وألقى عليه ألفاظ الإقامة-، فجاء عبد الله بن زيد إلى الرسول فأخبره بذلك، فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك) ، فالذي رأى الرؤيا، وشرع الأذان على يده لم يباشره، ولكن باشره من هو أولى منه.

ومن هنا نأخذ أن تعيين المسئوليات يكون بحسب من يصلح لها، لا بحسب مراعاة شخص أو مناسبة أخرى، فهذا الذي رأى الرؤيا بالأذان ألقاه على بلال، وقام بلال ورفع الصوت به، فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه تلك الألفاظ جاء يجر رداءه وقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد رأيت مثل ما أسمع الآن فيما يرى النائم) ، وهكذا شرع الأذان برؤيا منام، وجاء على يدي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا نجعل الفقه في جانب، وننظر إلى هذا الواقع، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأذان -وهو أعظم شعار في العالم الإسلامي- يشرع بهذه الطريقة، فلم يوح به على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأته جبريل عليه السلام ويعلمه الأذان مباشرة أمام الناس كما جاءه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ وكل ذلك يجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا أمر الساعة، ثم ولى، فقال: (أعيدوه، فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) ، ونظير ذلك عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من الهجرة، عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله يأتيه الوحي، لكن عندما تلقاه الناس وشيعوه من قباء إلى المدينة، كل منهم يقول: هلم عندنا يا رسول الله! كان يقول: (دعوها فإنها مأمورة) -أي: الناقة التي يركبها- فكان يوحى إليه في الصغيرة والكبيرة ولكن هنا يقول عن ناقة عجماء: (إنها مأمورة) ولماذا هذا؟ لاشك أنه لحكمة عظيمة، أما موضوع الأذان فنقول -والله تعالى أعلم-: لقد جاء الأذان بإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعلت الشهادة برسالته قرينة بشهادة لا إله إلا الله، حيث يقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، فلما كان في الأذان تعظيم وتكريم للرسول صلى الله عليه وسلم باقتران اسمه مع اسم رب العالمين، وكان ذلك حظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شرع بواسطة أحد الناس وأفرادهم، فإنه يكون قاطعاً لألسنة أولئك المتربصين الذين يرمون سهام التشكيك في ضعاف الناس، فلو شرع على لسان النبي لقالوا: إن محمداً هو الذي جاء باسمه مع اسم الله، ولكن لما جاء بواسطة شخصين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يستطيع إنسان -مهما بلغ به التشكيك، ومهما بلغ به الحقد على الإسلام- أن يطعن في رسول الله بذلك، بل أتى به من أتى، ثم هو قرر أنها رؤيا حق، فتشريع الأذان ليس برؤيا من حيث هي، ولكن بتقريره صلى الله عليه وسلم أن تلك الرؤيا حق، أي: أن ألفاظ الأذان حق.

فيكون مشروعاً، والسبب تلك الرؤيا، ثم التثبيت والتقرير منه صلى الله عليه وسلم.