للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن]

قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) متفق عليه] .

هذا الحديث -يا إخوان- يستوجب وقفة طويلاً؛ وذلك لهذه السنة النبوية الشريفة: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، والمثلية هنا ليست في الهيئة والكيف، ولكن في اللفظ فقط؛ لأن المؤذن يقول بصوت مرتفع ليسمع الآخرين، ولكن نحن إذا كنا في المسجد أو في الطريق أو في البيت أو في أي مكان إنما نحكي قول المؤذن لأنفسنا لا للغير؛ لأننا لا ننادي أحداً يأتي إلينا، وهذا ملفت للنظر! أنا أسمع المؤذن وأعي ما قال، فإذا قال: الله أكبر، أدركت معنى ذلك، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أدركت كذلك، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، كل هذه معانٍ أنا أدركها، فلماذا أقول بلساني وأسمع نفسي أو من بجواري هذا القول؟ نتأمل ذلك من جانبين: الجانب الأول: معاني الأذان، نجد الأذان قد جمع قواعد التوحيد وأصوله، ونظير ذلك التلبية في الحج، فالتلبية إعلان برفع الصوت، وهي شعار الحج، والأذان نداء برفع الصوت وهو شعار الإسلام، وإذا أخذت اللفظ الأول: (الله أكبر الله أكبر) فإنك تستشعر عظمة الله، وأنه أكبر من كل كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك.

وتأتي بالشهادتين تجدد العهد مع الله أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وتجدد العهد بأنك تشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان يجزئ التلفظ بهما في العمر مرة واحدة، فيدخل الإنسان بهما الإسلام، ولكن تجديدهما أفضل الذكر وأقرب القربات إلى الله سبحانه وتعالى.

فإذا سمعت (حي على الصلاة) فهو نداء يناديك باسم الله الأكبر، و (حي) بمعنى: أقبل على الصلاة التي هي عماد دينك، وهي حصن لك، تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الحياة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥] .

و (حي على الفلاح) تشعرك بفلاحك في الدنيا والآخرة، و (الله أكبر) حتى لا يشغلك عنها شيء، (لا إله إلا الله) .

فإذا تأملنا معاني هذه الألفاظ تحتم على السامع أن يقولها بلسانه ويسمع نفسه، لتكون عملياً تطرق القلب، وتملأ السمع، فيكون في حالة الأذان متوجهاً إلى الله سبحانه.

الجانب الثاني: المؤذن يؤذن وأنت في شغل، ففي الفجر وأنت في نوم، وفي الظهر وأنت في القيلولة، وفي العصر وأنت في العمل، وفي المغرب وأنت في عملٍ أو على طعام، وكذا في العشاء، فكل أوقات النداء أوقات شغلٍ، فإذا سمعت (الله أكبر) وكنت في نومك أو في عملك عرفت أن الله أكبر، ويجب أن تقوم وتنهض وتجيب حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإذا كنت في عملك في النهار مشتغل في متجرك، أو مشتغل في مصنعك، أو مشتغل في عمل بيتك، مهما عظم هذا العمل، وتسمع (الله أكبر) ؛ علمت بأن الله أكبر مما في يدك، ومما يشغلك عن أداء الصلاة، فمن أجاب هذا النداء تهيأ له.

وتوقيت الصلوات مرتبط مع تلك الحركة الكونية للشمس، وهذا الضوء الذي ينفجر من ظلام الليل آية من آيات الله، ثم إذا بالشمس تدور حتى تصل إلى كبد السماء، ثم تتحول إلى الغروب، ثم تتضيف إلى الغروب، ثم هي تغرب من هذا الكون عن هذا الجهة وتمضي في سبيلها، حركات يتغير من أجلها الكون بأسره! وإذا تأمل الإنسان هذا، وكان خالي الذهن، وجلس في عراء من الأرض، وعند نهاية الليل وعند إقبال النهار، يتأمل في هذا الكون ليل يمضي، وفجر يأتي، وحركة لا يقدر عليها إلا القوي المتعال، فيستدل بتفكره في هذه الحركة الكونية على عظمة الله وقدرة الله، فإذا سمع المؤذن يقول: الله أكبر، فكأنه يقول له: إن الذي يأتي بهذه الحركة، ويغير مجرى الزمن، ويغير أوضاع الكون هو الله، فيمتلأ قلبه إيماناً بالله.

وهكذا تتعلق أوقات الصلوات الخمس بتغير أحوال الزمن وبمسيرة الشمس، وكل حركة في ذلك تنادي بأن الله أكبر.

إذاً: الأذان ليس مجرد كلمات تطرق السمع، ولكنها معانٍ جليلة، تعلقت بأحداث كونية عجيبة، ولهذا جاءت السنة النبوية بأن تصغي إليه، وتردده، فإذا كنت تعمل بيدك وأذنك مع المؤذن ولسانك يحكي قوله فما يفرغ المؤذن من أذانه حتى تكون قد استخلصت نفسك مما أنت فيه، وجمعت شعورك وإحساسك إلى معاني هذا النداء، فتنفض يدك مما أنت فيه، وتذهب وتتوضأ وتأتي إلى بيت الله لأداء الصلاة.

فقوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول) ، ليست المسألة بالعبارات، وليست المسألة ذكر كلمات، ولكن لتعيش بوجدانك وروحانيتك وإحساسك وشعورك مع هذا النشيد الأعلى: الله أكبر، لا إله إلا الله.