للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم البيع والشراء في المساجد]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: وعن أبي هريرة رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي، وحسنه] .

هذا الحديث مع الذي قبله من باب واحد، فهناك ينشد الضالة لاسترجاع ما ضاع منه، وهنا يتعاطى البيع والشراء، وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من أراد سوق الدنيا فليخرج، ومن أراد سوق الآخرة فهنا.

فلم تبن المساجد لتنقلب أسواقاً للبيع والشراء، وكما قيل: الأسواق مساكن الشياطين، كما أن المساجد مساكن الملائكة؛ لأن الأسواق غالباً يوجد فيها الضجيج، ويوجد فيها التدليس، ويوجد فيها الأيمان المروجة للسلعة، وتوجد فيها مخالفات كثيرة، إلا من عصم الله، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب أمام التجار، والذين يتخذون المساجد مكاناً للبيع والشراء.

ويقال للمبتاع والمشتري في المسجد: لا أربح الله تجارتك.

وقد يقول بعضهم: إن قول: (لا أربح الله تجارتك) إنما يقال لمن اتخذ ذلك عادة، أما إذا تبايعا في سلعة بينهما، وليس من عادتهما التبايع في المسجد فهل يتسامح معهما؟! والجواب: لا؛ لأن الحديث سدّ الباب، فإن تبايعا اليوم في قلم، ففي الغد سيتبايعان في الساعة، وبعده في الكتاب وهكذا، فيتسرب البيع والشراء إلى المساجد.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (فقولوا له) أي: أسمعوه لا أن تقولوها سراً؛ لينزجر بذلك، وإذا علم البائع الذي يريد الربح أنه إذا عقد عقد بيع في المسجد قيل له: لا أربح الله تجارتك فإنه لن يقدم على مثل هذا العقد، المدعو عليه بمحق الربح؛ فإنه -ولو ربح- لا خير فيه، كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦] فكذلك هذا العقد، وإن كان فيه ربح فهو ممحوق؛ لأنه منهي عنه.

وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله، ويفسحون لنا المجال نوعاً ما، فلو أن إنساناً اشترى من إنسان سلعة، وكان الثمن مؤجلاً، فوجد الثمن عند المشتري، ولقي البائع في المسجد، فهل يجوز له أن يقول: خذ ثمن سلعتك الذي عندي.

أم لا يجوز؟ والجواب: لأن عقد البيع قد مضى، وهنا سداد الدين، وسداد الدين -إن أخلص في النية- عبادة؛ لأنه يخرج من عهدة المطالبة بالدين، فلا مانع من ذلك.

ومثل هذا أيضاً رد الوديعة، فلو أن إنساناً أودع إنساناً آخر وديعة، وأراد المستودَع أن يسافر، وتعذر عليه لقاء صاحب الوديعة إلا في المسجد، فأتى بالوديعة معه ولقي صاحبه، وقال: خذ وديعتك.

فإني مسافر فلا إشكال في هذا؛ لأن المنهي عنه إنما هو التبايع، سواءٌ أكان لمرة واحدة نادرة، أم مراراً قليلة أو كثيرة.