للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض ... )

قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، رواه مسلم] .

هذا الإعجاز النبوي بهذا الأسلوب العظيم نجد بعض العلماء يقول فيه: إن الدعاء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والتسبيح بمثل هذه العمومات لا يصلح؛ لأنك بكلمة واحدة تريد أن تملأ السماوات والأرض؟ (الحمد لله ملء السماوات والأرض) ، وإذا ورد النص في هذا لم يبق لأحد مقال، والباب هو باب فضل الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الآخر عند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) ، هذه كلمة واحدة ملأت الميزان، وجاء في وصف الميزان: (لو أن السماوات السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) .

إذاً: لا نستطيع أن نتحكم بالعقل ما دام قد ثبت هذا بالنص.

(والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والحمد لله وسبحان الله تملآن ما بين السماء والأرض) ، (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .

إذاً: ما دام النص ثابت فلا كلام لأحد، وهنا في الحديث: (ملء السماوات وملء الأرض) .

تصور بإدراك العقل أن هذا الحمد ملأ السماوات والأرض، ثم قال: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، وهنا يتساءل العقل عند قول: (ما شئت من شيء بعد) ماذا بعد السماوات والأرض؟! هل يمكن لنا أن نتساءل هذا التساؤل ونحاول أن نصل إلى جواب، أم نترك ذلك إلى علم الله سبحانه وتعالى؟ ما دام أن النص يقول: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، فلا مانع، وأوسع من هذا كله قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:١٣٣] ، إذاً: يوجد شيء آخر غير السماوات وغير الأرض وهي الجنة، وهل هناك شيء آخر؟ في الحديث الآخر: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، وما الكرسي في العرش إلا كدراهم في ترس، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) .

إذاً: عالم الملكوت لا يمكن لعقل أن يحيط به، وهذا الذي جاءتنا به النصوص، ولم يقل: ملء السماوات وملء الأرض، وانتهينا، ولكن أين الكرسي؟ وأين العرش؟ وأين ما وراء ذلك؟ الله أعلم.

المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوسع مجال الذكر إلى هذا الحد؛ فهل فكرت في هذا حينما ترفع من الركوع وتقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ؟ هل تتذكر هذا المعنى؟ وليس مجرد السعة فقط، ولكن نتذكر عظمة هذا الكون وبالتالي عظمة الخالق.

(أهل الثناء) : يا رب أنت أهل للثناء، هناك الحمد وهنا الثناء؛ لأن ملء السماوات فيه بيان القدرة لخلق السماوات، والخالق بديع السماوات والأرض، وقد تثني على مهندس صمم هذا المسجد، أو على طبيب ناجح، وبديع السماوات والأرض أحق بالثناء سبحانه جل جلاله، فتجمع الحمد أولاً لكمال ذاته، وتأتي بالثناء ثانياً لملء السماوات والأرض وما شئت من شيء بعد، وأنت تعلم بذلك، فيكون اجتمع منك لله الحمد والثناء.

(أهل الثناء والمجد) : المجد: العزة، والسلطان، والقدرة، مثلما يقولون: سهل ممتنع.

(أحق ما قال العبد) : هذه الألفاظ أحق ما يقولها العبد لمعبوده؛ أن يحمده بهذا الحمد المتسع، وبكل ما يمكن أو هو كائن في الوجود، والثناء على الله بما هو أهله من حسن الفعال والقدرة والإيجاد والإبداع.

إلخ.

فإذا كان الله خلق السماوات ودبر أمرها، وسير فعالها، وما فيها من ملائكة كواكب، ليس فقط مجرد سماء وبنيت، وأديرت، وكذلك الأرض وما فيها من عوالم، حق الثناء لله، وأحق ما قاله العبد لربه مقابل هذا الملك بكامله.

(وكلنا لك عبد) ، أحق ما قال العبد -وأنا منهم- (وكلنا لك عبد) ، وبهذا في هذه الحركة أعتقد أنه لا يتأتى لإنسان أن يقول: الله أكبر، ثم ينزل إلى السجود ويفوت على نفسه الخير الكثير، وهذا يبين خطأ من يقول: أركان الصلاة ركن طويل وركن قصير، أو ركن ثقيل وركن خفيف، بل كلها أركان مستوية، وتقدم لنا مبحث الطمأنينة، وأن الإنسان يطمئن في كل أركان الصلاة.

(اللهم لا ما نع لما أعطيت) : عطاء المولى سبحانه وتعالى عظيم، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى لإنسان عطاء فلا راد له، وقد جاء هنا عطاء مطلق: (لا مانع لما أعطيت) ، سواء كان العطاء مادياً محسوساً من غنى وصحة وولد ومنصب.

إلخ، أو كان عطاء معنوياً من مكارم أخلاق وتوفيق للعبادة وعلم نافع،.

إلخ.

لا مانع يا رب لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، فالعطاء من الله، ولا موجود في هذا الوجود يمنع عطاء الله عمن أراد له خيراً، كما في الحديث: (لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك بشيء لن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك) ! إذاً: في هذا الجزء من هذا الحديث وأنت قد توجهت إلى الله سبحانه وتعالى، وحمدته ملء السماوات والأرض، وأثنيت عليه سبحانه؛ تقف مقراً بين الرجاء والخوف، ولا تتوجه في حاجة أياً كانت إلا له سبحانه، إذ لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقد جاء في الحديث: (كل شيء بقضاء الله وقدره حتى العجز والكيس) ، يعني الذكاء والغباوة، الفطنة والجهالة، كلها بعطاء من الله وبقدر منه.

والقرآن الكريم فيه توبيخ لعباد الأصنام وبيان لباطلهم: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:٧٣] ، لماذا تعبدونهم؟ هل لديهم منفعة ترجونها؟ هل تخافون من ضر يوقعونه بكم؟ هم لا يملكون نفعاً يجلبونه إليكم، ولا يقدرون على ضر يوقعونه بكم، فما هو موجب العبادة؟ وتقدم مراراً الإشارة إلى قول العلماء: كل عاقل في هذه الدنيا إنما يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر، قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع مع ملاحظة اختلاف الجهة وانفكاكها، إذا أنت لم تنفع صديقك تضر عدوك، يعني لابد أن تفعل شيئاً، فإذا كنت لا تستطيع نفعاً ولا ضراً، {كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:٧٦] ما قيمة هذا؟ وفي هذا الموقف بين يدي الله الاعتراف بأنه: لا مانع لما أعطيت قليلاً كان أو كثيراً، ولا معطي لما منعت قليلاً كان أو كثيراً، إذاً: وأنت بين يدي الله في الصلاة تزداد رغبة وإيماناً ويقيناً بأن العطاء من الله ولا يدفع الشر إلا الله، وهذه أيضاً وقفة جديدة مع الوقفة الأولى: (ربنا ولك الحمد؛ حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) .

ثم يعقب ذلك بما يشبه التذييل والتكملة، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا ينفع ذا الجد، والجَد بمعنى الحظ، تقول لإنسان: فلان محظوظ، ومن أين جاء له الحظ؟ صاحب الحظ مهما قلت فيه فإن حظه لن يأتيه بشيء إلا من عند الله، وبالكسر (الجِد) بمعنى الاجتهاد، والمعنى الآخر (للجَد) الذي هو أبو الأب؛ لا دخل له في هذا.

(ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، يعني: ذا الحظ والذكاء والفطنة، عقله وفطنته وحظه لا ينفعه بشيء.

ولو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجى لماتت من جهلهن البهائم والغنى والفقر ليسا بالذكاء أو بالحظ، والآن يوجد جهاز بحجم الكف يحسب قدر مائة شخص، ومائتا ألف كلمة تترجم في جهاز مثل الكف من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، ويُخزِّن أرقام أكثر من مائتي رقم تلفون، وآلة حاسبة، وكلها قدر الكف، أين ذهبت عقولنا؟ مائتا ألف كلمة تترجم من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، وأكبر شخص مترجم الآن لا يحفظ مائتي ألف كلمة.

إذاً: العقل كآلة إذا كان أوتي شيء من الذكاء فمن الله، هذا الذي ركب أو اخترع هذا الجهاز من أين؟ من العقل والعقل مَنْ خلقه ووهبه وأعطاه هذا إلى أن توصل إلى ذلك؟ الله، إذاً: الكل راجع إلى الله.

قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] ، والعلم من أعطاك إياه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨] من الذي علمك بعد أن خرجت من بطن أمك؟! إذاً: العاقل يتأمل حقيقة وجوده، وحقيقة وجود الكون من حوله، وهذه لفتات أو لمسات تأتي من الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة توجه الإنسان بكليته إلى الله، واستعداد استقبال هذا التوجيه أكثر مما لو جاءه وهو ماش في السوق، أو ذاهب إلى البيت، أو نائم في غرفته، أو جالس يأكل ويشرب، لكن يصلي ويناجي ربه، فيعلمه حقيقة علاقته بالله: يا رب! أنا جئت إليك وأقررت أنك رب العالمين، تصرفهم كيفما شئت، وأنا فرد من أفراد تلك العوالم كلها، وأقررت بأنك مالك يوم الدين ومآله إليك، ثم رجوت وسألت بذله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] ، اعتراف، {اهْدِنَا} [الفاتحة:٦] ، فيبين حقيقة علاقة الإنسان بالله في هذا الحديث.

ولهذا نقرأ: (الدعاء مخ العبادة) ؛ لأنك لو تأملت في ألفاظ الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت العمق والبعد إلى حد بعيد جداً، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.