للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن والبخل]

تقدم الكلام على طرفٍ من هاتين الخصلتين المقترنتين: البخل والجبن، وتبيّن لنا أن البخل من أشد الأدواء، ويذكر بعض الناس عوامل قد تطرأ على الإنسان تُبخله، إما كثرة عيال وإما قلة المال، ولكن الحد الوسط في هذا هو: ألا يمتنع عن حق شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوق الله فيما في يده من المال من زكاة أو مساعدة ضعفاء أو إحسان إلى الجار أو صلة ذي رحم؛ فلا يقال: إنه بخيل، ولكن إذا كان يمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شحاً بماله فهذا هو البخيل، كما أن الإسراف هو: أن يُبذر المال في غير وجهه، كأن ينفقه في أدوات لهو أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يعطيه السفهاء يبذرونه ويضيعونه، فهذا تبذير ولا يجوز.

وكلا طرفي الأمور ذميم إفراط أو تفريط هذا مذموم، لكن توسط واعتدال هذه هي الفضيلة.

أما الجبن: فيرى بعض الناس أنه لا يستطيع الجبان أن يتكلف الشجاعة، ولا أن يتدرب ويكتسبها، قد يستطيع البخيل أن يتخلص من بعض شدة الشح عليه ويبذل، ولكن الجبن غريزة ذاتية لا يستطيع أن ينفك عنها، ويذكرون عن حسان رضي الله تعالى عنه الجبن، وهو الذي يُظهر الشجاعة في أشعاره، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يتهدد قريشاً، وهو لا يستطيع أن يقتل إنساناً، ويذكرون في غزوة الخندق لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالصحابة إلى حفر الخندق، خافوا على النساء والأطفال من اليهود؛ لأنهم كانوا لا زالوا موجودين، وكان لـ حسان حصن منيع؛ فجمعوا النساء والأطفال في ذلك الحصن، ولفت نظر صفية رضي الله تعالى عنها أن رأت يهودياً يطوف بالحصن، فقالت لـ حسان: هذا يهودي يطوف بالحصن أخشى أن يطلع على ثُلمة فيؤذينا، انزل إليه فاقتله، فقال لها: ما أنا هناك يا ابنة عمي! وهي خافت على من عندها، فاحتزمت واعتجرت عمامة، وأخذت خشبة، ونزلت وترصدت به، فضربته على رأسه فقتلته، ثم قالت لـ حسان انزل وخذ سلبه، والله ما منعني أن آخذ سلبه إلا أنه رجل، قال: لا حاجة لي بسلَبه، فهذه حالة ما استطاع أن يتخلص منها.

ويذكرون في بعض مواقف الشجعان أن الشخص يكون من أشجع خلق الله، لكن في البداية قد يكون من أجبن خلق الله، فإذا ما زج به إلى الخطر كان كالأسد الهصور، ويقولون: إن بعض الصحابة كان في بعض الغزوات، وحاصروا أهل تلك الجهة، فإذا بهذا الشخص يقول: لفوني في لفائف وألقوا بي إلى العدو، فلما لفوه في اللفائف، أحدث على نفسه من شدة الخوف، ولكن لما ألقوا به وراء السور قام وقاتل العدو حتى فتح الباب للمسلمين، فهذه مسائل هبة لا يستطيع إنسان أن يتحكم فيها، ولا ينبغي أن يُعاب على إنسان ابتلي بشيء غريزي لا يستطيع أن يتخلص منه.

والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من هاتين الخصلتين مما يدلنا على أنها صفات مذمومة، ولكن يقول العلماء أو الأدباء -وهو عجيب-: البخل والجبن منقصة في الرجال ممدحة في النساء، ما كان نقصاً في الرجال يعابون به، فهو مدح في المرأة، كيف هذا؟ قالوا: المرأة البخيلة تحفظ مال زوجها في غيبته؛ لأنها تشح به، والمرأة الجبانة تخشى أن تخرج من بيتها فتبقى في بيتها، إذاً: الرجل البخيل مذموم، والمرأة البخيلة ممدوحة، وليس فقط بخيلة على عيالها أو زوجها، بل تكون بخيلة على الأجانب، وكذلك الرجل الجبان مذموم؛ لأنه يجب أن يكون شجاعاً ويقاتل ويحمي عرضه وماله ووطنه، إلى غير ذلك، والمرأة الجبانة هذه صفة مدح فيها؛ لأنها تخشى على نفسها أن تخرج ليلاً، أما في النهار فهي تحت أعين الناس، أما في الليل فالمرأة الجريئة تخرج ولا تدري ماذا يصادفها، إذاً: هما خصلتان مذمومتان في الرجال ممدوحتان في النساء.