للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحقيق الخلاف في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر]

عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وبعدها اضطجع، هل هذه الضجعة تابعة للسنة فنتأسى به فيها، أم أنه فعلها لمطلب الجبلة عنده صلى الله عليه وسلم؟ يقول الشوكاني: فيها خمسة أقوال: من الأقوال التي جاءت فيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل، وإلى متى يمتد قيامه؟ كما تبين أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليصل ركعة توتر له ما قد صلى) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ثم يوتر، ثم يضطجع حتى يأتيه المؤذن، ثم يقوم يصلي كما جاء في حديث أم المؤمنين: (كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم فيصلي، فأقول له: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ فيقول: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) أي: أنه صلى الله عليه وسلم جعل النوم مظنة انتقاض الوضوء؛ لأنه قال: (العين وكاء السه) والسه: حلقة الدبر، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فالنائم يخرج منه الريح وهو لا يدري، لكن إذا كان القلب مستيقظاً فإنه إذا حدث منه حادث أدركه، ومن هنا كان لا يتوضأ لنومه.

وكان أبو موسى الأشعري عندما كان في الكوفة أميراً عليها يقيل في المسجد بعد صلاة الظهر، وكان عنده إخوانه، فإذا جاء وقت العصر أيقظوه، فيقول لهم: أسمعتم شيئاً أو شممتم شيئاً؟ فيقولون: لا، فيقوم يصلي.

أي: أنه لم يخرج منه شيء.

والفقهاء يقولون: من قعد متمكناً ثم نعس وهو على تلك الحال فلا وضوء عليه، وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، والمالكية يقولون: إذا نام وهو راكع فلا وضوء عليه، وإذا نام وهو ساجد فعليه وضوء؛ لأنه وهو راكع متوازن، وحافظ لتوازنه، فإذا خرج منه شيء أدركه، أما الساجد فإنه ينام ولا يدرك شيئاً.

فهنا تقول عائشة رضي الله تعالى عنها عنه إنه كان يقوم الليل، فإذا كانت نهاية الليل في طول القيام فإنه يحتاج إلى راحة، فقالوا: تلك الضجعة للارتياح بعد قيام الليل، من قال: إن كل من قام الليل فتعب فاضطجع فلا مانع، لكن هل اضطجاعه سنة أو اضطجاعه جبلة؟ والله لا تقدر أن تحكم بشيء، أقول للإخوة: ارجعوا في هذه المسألة إلى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، فقد روى هناك حديثاً عن أم المؤمنين عائشة - أعتقد أنه الفيصل في القضية - تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة جلس يحدثني، وإن كنت نائمة اضطجع) ، ومن هنا أجمع العلماء -ما عدا ابن حزم فيما انفرد به -على أن هذا الاضطجاع ليس بواجب، ويختلفون هل هو مباح أو مكروه أو سنة أو جبلة.

ولكن وجدنا من ينقل عن الخلفاء الراشدين الأربعة النهي عن فعلها، ومن ينقل عن بعض السلف كـ ابن عمر أنه كان يفعلها، ومنهم من يروي أنه كان لا يفعلها.

والخلاف موجود على هذا النحو المتقدم، فمن فعلها جبلة فلا بأس، لكن لا يكون ذلك في المسجد فيؤذي الناس، ويأخذ مكان ثلاثة أو أكثر، لأنه لا ضرر ولا ضرار، فإذا في بيته، وكان البيت قريباً من المسجد فكيفما شاء، أما في المسجد فإن فعلها يكون فيه تضييق على الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فعله صلى الله عليه وسلم على منهج البحث العلمي دائر بين الجبلة والتشريع، ووجدنا ترجيح جانب الجبلة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه تارة يحدثها، وتارة يضطجع.

أما حديث الأمر الموجه للأمة: (فليضطجع) وجدنا أن هذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب مالم تجد صارفاً، ووجدنا حديث عائشة رضي الله عنها فيه الصارف عن الوجوب، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه، وإنما كان يفعله تارة ويتركه أخرى، فانتفى الوجوب بصيغة الأمر الموجه للأمة.

والله تعالى أعلم.