للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف المأموم الواحد من الإمام]

قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) متفق عليه] .

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أورده المؤلف مختصراً، ولكن الحديث بتمامه فيه صورة تبين الفطرة والذكاء، أو حُسن النشأة، فحينما ينشأ الإنسان في بيت كهذا البيت فإنه يكون الناشئ فيه كما جاء في الحديث: (شاب نشأ في عبادة الله) ، والشاب الذي نشأ في عباد الله سيجد عبادة الله أول ما يكون في البيت، فيتلقى العبادة والأخلاق والتوجيه أولاً وقبل كل شيء في البيت.

فـ ابن عباس كان غلاماً صغيراً، وذهب إلى بيت خالته ميمونة، وبات عندها، ويقول في بعض الروايات: (فنمت في عرض الوسادة) ، وعرضها يمكن أن يبلغ شبراً أو أكثر أو أقل، ونحن نسميه رأس المخدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين ميمونة توسدا طول الوسادة متجاورين، وابن عباس توسد رأس الوسادة أو عرض الوسادة.

ولا تقل لي كيف يبيت غلام عند زوج وزوجته؟! لأنها خالته، وأيضاً هو غلام، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين.

فلما كان ثلث الليل أو جزء من الليل قام صلى الله عليه وسلم وذكر الله وسبح، ثم قام إلى بيت الخلاء، فلما دخل الخلاء قام ابن عباس وأخذ أداوة من ماء وملأها من القربة ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج صلى الله عليه وسلم وجد الأداوة مملوءة فقال: (من وضع هذا؟) قالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فلم يقل: اللهم كبره وأغنه وسوده، وزوجه.

لأن ابن عباس أبدى نوعاً من الفقه والاستنتاج، وهذه هي المواقف التي تدل على الذكاء والفطنة، لا تلك المسابقات التي تعجز، ولا تلك الأحداث التاريخية، ففي هذه الحالة غلام لم يبلغ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، والذي دخل الخلاء إذا خرج يريد أن يتوضأ، فاستنتج الحاجة إلى الماء.

فالاجتهاد والاستنتاج يكون عقلياً ويكون دينياً، فهو استنتج بفكره، وأرشده الله سبحانه وتعالى، وأنار بصيرته فجهز الماء حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الفقه، فكانت الدعوة مطابقة له، (فقهه في الدين) يعني زده فقهاً في الدين.

وفي هذا دلالة على أن أشرف العلوم الدينية هو الفقه في الدين.

فلو أن إنساناً حفظ مجموع السنة: صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والجامع الصغير والكبير، والموطأ، وغير ذلك، ولكن المسجلة دون أن يفقه شيئاً، وإنسان قرأ بلوغ المرام فقط، وفقه في دين الله، فأيهما أنفع للأمة؟ يذكرون عن بعض شيوخ الأزهر أنه جيء إليه برجل، وقيل له: هذا الرجل حفظ صحيح البخاري.

قال: وشروحه؟ قالوا: ليس بعد.

قال: زادت نسخة في المكتبة.

وقد روي علي قوله: نحن في حاجة إلى من يعرب القرآن أكثر ممن يقرأ بدون إعراب.

فالفقه في الدين هو الأساس، و (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .

ولكن الفقه لم يأت من ضرع الناقة، ولا من ضرع الشاة، ولا هو صيد من البحر، ولا هو طير في الهواء، الفقه مجموعة علوم، ولا يمكن لإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيها، من أحاديث الأحكام، وآيات الأحكام، وليس من الضروري أن يحفظ الأحاديث كلها أو القرآن كله، ولكن المهم أن يحفظ الآيات التي تعرضت للأحكام، فالقرآن منه ما يتناول القصص التي فيها العظة والعبرة، ومنه ما يتناول الأحكام، سواء في الدماء، أم في الفروج، أم في الأموال.

وبعد أن يحفظ الإنسان آيات الأحكام وأحاديث الأحكام عيه أن يكون بارعاً متضلعاً في اللغة العربية؛ لأنها هي لسان القرآن ولسان السنة، وكيف تفقه معاني كتاب إن لم تفقه لغته! ويذكرون عن الملك فيصل رحمه الله أنه كان له صديق مستشرق، فكان يذكر له دائماً إعجاز القرآن وآياته وبلاغته فلما أكثر عليه رجع هذا المستشرق إلى القرآن، ثم بعد فترة لقيه فقال: ما وجدت كل الذي كنت تقوله لي في القرآن! قال له: كيف قرأته؟ قال: بالترجمة، قال: ما قرأته، فإذا أردت أن تدرك بلاغته، وتدرك حلاوة أسلوبه وعباراته فعليك أن تقرأه بلغته التي نزل بها.

فرجع الرجل وأمعن في دراسة العربية، ثم جاء وقال: يا فيصل! ما أعطيت القرآن حقه، هو فوق ما كنت تقول.

فمن أهم أدوات الفقيه تعلم العربية.

فمن أراد الفقه تعلم اللغة، ثم تعلم أصول الأحكام من أحاديث وآيات، ثم تعلم أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي تلك القواعد التي عليها بني الفقه، وتؤخذ عن عالم سبق له أن أخذ عن غيره وهكذا.

ولعلنا أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأنا نجد بعض الناس قد يستخف بدروس الفقه، أو لا يعنى بها، أو يقدم عليها الكثير من العلوم، وهذا خطأ.

وكنا نسمع من شيخنا الشيخ محمد بن تركي رحمة الله تعالى علينا وعليه حيث قرأنا عليه فقه الحنابلة، وقرأنا عليه صحيح البخاري يقول: قبل كل شيء تبدأ بالفقه، ثم تقرأ الحديث ليكون تطبيقاً لقواعد الفقه على الحديث، والفقه يفصل الحديث أكثر مما يكون.

ولهذا تجد في شروح الحديث قولهم: وهذه مسألة فرعية محلها كتب الفروع أي أن الفقهاء فصلوا في هذه المسألة أكثر مما يفصله أهل الحديث.

والشافعي في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) قال: استنتجت من هذا الحديث أربعين مسألة.

ولا يوجد في شروح الحديث ما يعادل هذه الثروة الفقهية من مثل هذه الألفاظ القلائل.

فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أعطاه الله ملكة في الفقه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة فيها، فقال: (اللهم فقهه في الدين) ، وعرفنا أن أكبر منزلة وأعظم عطاء يناله المرء أن يفقه في دينه.

ولقد جئت إلى والدنا الشيخ الأمين في المسجد النبوي، وقلت له: يا شيخ! أراك منذ أن بدأت التدريس في المدينة وفي الرياض وفي الجامعة اقتصرت على فنين فقط، مع أني أعرف أن لديك من الفنون كذا وكذا وكذا، وأنت تقتصر على التفسير وأصول الفقه؟ قال: ما سبب هذا السؤال؟ قلت له: هناك سبب، وهو أني قرأت عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سُئل: أنت في زمن جمع الرواية والحديث، وفي زمن الخوض في مسائل الكلام والتوحيد، ولم نر لك مشاركة في جمع الحديث وروايته، ولا في جدل الكلام والمنطق، واقتصرت على الفقه! قال: نعم.

أما مسائل العقائد فليست للعامة كما هي للخاصة، ولن تسلم من إنسان يرميك فيها بالزندقة، فلذلك تركنا الخوض فيها، وأما رواية الحديث فلها نقاد للرجال، ولن تسلم من إنسان -عامداً أو مخطئاً- أن يرميك بعلة من العلل التي يسقط بها الحديث فتلصق بك طول العمر، والرواة مشتهرون، والحديث مروي ومجموع، ورجاله متوافرون، أما الفقه فنظرت فإذا الناس عامة إمامهم، وكبيرهم، وصغيرهم، ورجالهم، ونسائهم، وغنيهم، وفقيرهم يحتاجون إلى الفقه فاشتغلت به لخدمة الناس.

فقال الشيخ الأمين: كلامه صحيح.

أما أنا فنظرت فإذا في الحديث مجهود مزدوج، فتبحث عن الرجال وتوثق السند أولاً، ثم ترجع إلى المتن وتستنبط المعاني ثانياً، فهذا مجهود مزدوج.

وأما التوحيد فليس من العقل أن تثير القضايا العقائدية التي قد تورث شبهاً عند عامة الناس فتهلكهم، وإنما تأتي في المناسبات، أو في البحث العلمي للتحقيق، وأما علوم العربية فهي وسيلة وليست غاية.

وأما التفسير فإنه يأتي على الفقه في آيات الأحكام، ويأتي على العقيدة في آيات العقائد، ويأتي على المواعظ والزواجر في آيات قصص الأمم الماضية، وكل علم موجود الآن، مسطر عند العلماء فالتفسير يحتويه، وأما الفقه فإنك تجد -خاصة هنا- الفقه المقارن، فما تجد جماعة إلا وفيهم شافعي ومالكي وحنبلي وحنفي، وكل يريد مذهبه، وإذا أردت تحقيق مسألة فإنك تبذل جهداً رباعياً لكل مذهب جهد حتى تصل إلى نتيجة، فإن تركتها وجئت إليها بعد فترة احتجت إلى العودة إلى ذاك الاجتهاد مرة أخرى.

ولكن التفسير يجيء على جميع المعاني، وما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها.

قلت: ما دمت بهذه المثابة، وعندك كل ما قيل في آيات كتاب الله من خلاف ونزاع ووفاق فهذا نعمة كبرى، وهذه ما تحتاج معها إلى غيرها.

ثم قلت: والأصول؟ قال: أما الأصول فلا غنى لطالب علم عنه؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء.

ونحن إنما ننبه على هذا لزيادة التأكيد على دراسة الفقه، وأحب لكل طالب علم قبل أن يأخذ كتاباً في الحديث أن يأخذ كتاباً من أمهات الفقه أياً كان، كالمغني لـ ابن قدامة، والمجموع للنووي، والهداية للأحناف، أو غير ذلك، ويأخذ دقائق المسائل فيه ثم يأتي إلى كتب الحديث.

فالفقه مقدم، والحديث أدلته، فإذا جاء للخلاف أو للمقارنة فهذه مرحلة أخرى تزيد على مجرد الطلب، والله تعالى أعلم.