للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على الله]

كلام جابر فيه شيء من الإيجاز أو الاختصار، وقوله: (إذا خطب) ، أي: إذا شرع في الخطبة.

ويتفق العلماء على أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد لله، ويقولون: إن الخطيب يبدأ بالسلام على المصلين، فإذا سلم عليهم جلس وقام المؤذن وأذن الأذان الذي هو إشعار بدخول الوقت، وقد يسبقه أذان آخر قبل الوقت -وهذا هو الغالب- للتنبيه، وهو أذان عثمان رضي الله عنه، وهو خليفة راشد أنشأ هذا الأذان إشعاراً لأهل السوق؛ لينتبهوا لدخول الوقت، فينقلبوا إلى بيوتهم ليتهيئوا، وليسعوا إلى الجمعة.

وقد يقول قائل: وكيف أنشأ عثمان هذا الأذان ولم ينشئه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهم أجمعين؟ فيقال: سيأتي في باب الغسل يوم الجمعة أن عمر رضي الله عنه كان يخطب، فدخل رجل -وسماه في الموطأ أو غيره بأنه عثمان رضي الله عنه- فقال عمر: أية ساعةٍ هذه؟ يعني: لم تأخرت؟ وقد جاء في بعض الروايات: (لم تحبسون عن الصلاة؟) ، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أن سمعت الأذان حتى توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً! فهنا رأى عثمان رضي الله عنه أن الاشتغال في السوق -كما وقع له- قد يشغل الناس، فيحتاجون إلى ما ينبههم قبل الوقت، فلما كانت الخلافة إليه أنشأ هذا الأذان قبل الوقت، وكان ينادى به على الزوراء، والزوراء كانت عندما يسمى اليوم بالباب المصري، وكان هناك مسجد صغير يقال له: مسجد الزهراء، وكان البعض يظن أنه لـ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التحقيق أن (الزهراء) محرفة عن (الزوراء) ، وكان -كما يقولون- عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت.

فهناك كان الزوراء، وقد وقفت على صكٍ لبعض الأشراف يحدد ملكاً بموقع الزوراء بهذا النص، وهو مكتوب في سنة ألف ومائتين، فالزوراء كانت في منتهى امتداد السوق وخارج السور الذي هدم أخيراً عند الباب المصري كما يسمونه، أو عند سوق الحراج القديم، فـ عثمان رضي الله عنه جعل أذاناً هناك، وكان هناك سوق المدينة، فكان يؤذن في ذلك المكان إعلاماً للناس بقرب الوقت فينطلقون إلى بيوتهم يتهيئون ويسعون إلى الجمعة، فإذا ما صعد الإمام على المنبر جلس وقام المؤذن يؤذن.

وقد جاء في صحيح البخاري في باب رجم الزاني: أن عمر رضي الله عنه جلس على المنبر حتى فرغ المؤذنون، فقام وحمد الله.

فأول ما يفعله الإمام أو الخطيب أنه إذا جاء سلّم على من عند المنبر، ثم يصعد المنبر فيسلم على الناس من فوق المنبر، ثم يجلس ينتظر المؤذن حتى يفرغ من أذانه، فإذا أذن قام للخطبة.

ويتفقون على أن الخطبة تبدأ بحمد لله، وهذا كما في الحديث: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بحمد لله أو باسم الله فهو أبتر) ، فيبدأ فيحمد الله ويثني عليه سبحانه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوصي بتقوى الله، ثم يأتي بآية من كتاب الله أو سورة قصيرة، والأولى أن تتناسب مع موضوع الخطبة.

فهنا جابر يقول: (ويقول: أما بعد) ، و (أما بعد) يجب أن تكون بعد كلام، ولا تكون في افتتاح الكلام أبداً، فهي مشعرة بأن قبلها كلام، وهذا الكلام هو الذي اتفقوا على أن يبدأ به الخطيب، وهو حمد الله والثناء عليه.

وهنا تظهر براعة الخطيب في حسن الاستهلال، فهو إذا قام حمد الله وأثنى عليه بواسع الرحمة، وأثنى عليه بواسع المغفرة، وأثنى عليه بواسع فضله، وأثنى عليه بجزيل نعمه، فينظر الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه فيأتي بالثناء على الله بما يشعر بذلك، وهذا -كما نبهنا عليه- هو براعة الاستهلال، وكلما كان الخطيب بليغاً كان أعلم بمداخل الكلام وإيجازه، فيجمع المعنى الكثير في القول القليل، وسيأتي الحديث بعد عن هذا المعنى.