للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اللطائف البلاغية في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)]

ويقولون في علم العربية (إنما) أقوى أدوات الحصر، وكذلك النفي والإثبات، تقول: لا شاعر إلا زيد، (لا) نفي، و (إلا) استثناء، وكذلك تقديم ما حقه التأخير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥] ، أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب محلها التأخير، فلما فصلت وقدمت جاءتها (إيا) من أجل النطق بها؛ لأنه لا ينطق بكاف الخطاب مجردة، فقدمت كاف الخطاب عن محلها فكان دليلاً على القصر، قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥] لا نعبد غيرك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] لا نستعين بسواك.

فهذه كما يقولون: أدوات القصر، وكذلك تعريف الطرفين لو قلت: زيد كاتب، قد يكون كاتب من الكتاب، ولكن إذا قلت: الكاتب زيد، فهذا قصر، ويقولون: القصر نسبي وحقيقي، والقصر النسبي ما كان بالنسبة إلى أشخاص آخرين يدَّعون الكتابة، تقول: الكاتب أي: حقيقة هو فلان، وهكذا (إنما) النفي والإثبات تقديم ما حقه التأخير تعريف الطرفين.

هذه هي أدوات القصر في علم البلاغة، وأقواها (إنما) .

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:١٥] ، أي: حقيقة المؤمنين ما هي؟ من هم المؤمنون حقاً لا ما يدعي أولئك الأعراب الذين لم تصدق قلوبهم منطق لسانهم، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} [الحجرات:١٥] (الَّذِينَ) اسم موصول.

{آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] ، هنا لطائف بلاغية كما يقول علماء التفسير: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:١٥] ، كان ممكن، أن يقال: (ولم يرتابوا) ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] ، و (ثم) هنا كما يقولون: للتعقيب والتراخي.

أولاً: الريب إنما هو الشك، والشك التردد، والتردد والشك هما نتيجة وسوسة الشيطان للعبد، يوسوس إليه فيوجد عنده شكاً في الحقائق فيتردد ويرتاب، فإذا ارتاب كان مذبذباً بين هذا وذاك، ولم يستقر حاله على أمر، وقد قدمنا بأن الشك هو تعادل الكفتين في العلم، والظن ترجيح إحدى الكفتين، والوهم هو الكفة الراجحة، والعلم هو ما لا يوجد مقابله وهم، فالشك تردد، والمتردد لم يجزم ولم يستقر على ما يريده.

وأخطر ما يكون في هذه الحياة من أمور الدنيا والدين إنما هو التردد والريب، ولهذا يجد المتأمل في كتاب الله أن المصحف الشريف بدأ بنفي الريب باليقين، وانتهى بنفي الشك والريب والوسوسة، ويهمنا هنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} .

ثم بين سبحانه: (ثُمَّ لَمْ) ومجيء (ثم) هنا يبين به سبحانه بأن المؤمنين حقاً الذين آمنوا إيمان يقين ولم يقم مع إيمانهم شك ولا تردد، ثم هم يثبتون على الإيمان القاطع من أول إيمانهم إلى آخر أمرهم في الحياة حتى يخرجون من الدنيا.

(ثُمَّ لَمْ) ، أي: لم يطرأ على إيمانهم فيما بعد ريب، فهم مؤمنون على يقين من أول لحظة، ويستمرون على اليقين في إيمانهم، ولم تزعزعهم القضايا التي تعرض عليهم، ولم تزعزعهم الشدائد التي تضر بهم، بل يثبتون على يقينهم، ثم مهما طال الزمن، ومهما واجهوا من أحداث لن يأتي الريب إلى قلوبهم، ولن يجد الشك إلى يقينهم مدخلاً ولا طريقاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>