للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)]

يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:٤] نداء الإنسان في بيته من وراء الحجرات يتنافى مع الآداب العامة.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:٥] ، ومع ذلك مادام أكثرهم لا يعقلون {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:٥] .

ويذكرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة: أنه وفد من تميم -وكان المسلمون قد أخذوا لهم أسارى- جاءوا يفادونهم، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا} ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم فادى البعض وأطلق البعض عفواً، لو صبروا لكان قد أطلق الجميع.

وقد كان مجيئهم في وقت القيلولة، ووقت القيلولة حق لكل إنسان أن يستريح ويقيل فيه، وكان الواجب أن ينتظروا حتى يخرج لصلاة العصر ويكلمونه، لكنهم ما صبروا، فنادوه في وقت الراحة يريدونه أن يخرج إليهم في وقت قيلولته.

فأزعجوه وأقلقوه وواجهوه بكلمات ما كان يريدها، ولما نادوه ما أجابهم أولاً، فقالوا: يا محمد! اخرج إلينا، جئنا نفاخرك، والمفاخرة والمنافرة معروفة عند العرب: المفاخرة: أن يأتي وفد إلى وفد ويذكر كل وفد مفاخر قومه فينا فلان الكريم فينا فلان الشجاع فعلنا من المكرمات كذا وكذا، ويكون هناك حكم من أهل العقل والروية يعرف طباع العرب فيحكم لمن يكون الفخار في هذه المفاخرة.

وكذلك المنافرة: تكون فيما بينهم من عداء وانتصارات ووقائع، فكانت هذه طريقة عند العرب وهي طريقة جاهلية وقد يتفاخرون بأمور جاهلية لا أصل لها.

فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بالفخار بعثت) أي: أنتم جئتم لشيء أنا ليس لي به شأن، أنا لم أبعث بالفخار، إنما بعثت بالإسلام والإيمان والتواضع.

إلى آخره.

فقال أحدهم: (اخرج إلينا فإن مدحي زين وذمي شين) ، يعني: إن جئتنا مدحناك، وإن لم تخرج هجوناك أو ذممناك.

(وذمنا شين) : أي: يطير عند العرب ويلصق بك (ومدحنا زين) : يطير عند العرب ويكون فخراً لك.

هذا على مقاييس الجاهلية، فهم ما ارتفعوا إلى مستوى النبوة، ولا إلى ما هو عليه صلى الله عليه وسلم، ونسوا أنفسهم أنهم بشر كغيرهم، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ذاك الله عز وجل) .

أي: أن الله إذا مدح إنساناً فذاك المدح هو الزين، وأن الله إذا ذم إنساناً فذاك الذم هو الشين، لا ينقطع عنه.

فمثلاً: مدح الله سبحانه وتعالى أهل بيعة الشجرة فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨] امتدح الله أولئك فكان هذا المدح شرفاً لهم إلى يوم القيامة، وذم أبا لهب وزوجه فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١] من يستطيع أن يمحو هذا أو يرفعه عنهما؟ لصقت فيه وفي زوجه إلى يوم القيامة.

إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له مناديهم أو أميرهم: (إن مدحي زين وذمي شين) ، قال له: (ذاك الله عز وجل) ، لأن من مدح الله كان ممدوحاً وثبت له المدح إلى يوم القيامة، ومن ذمه الله لصق به هذا الذم إلى يوم القيامة، وهذا تصحيح للمفاهيم.

وأخيراً: خرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس أو أميرهم: أتأذن لشاعرنا أن يتكلم -وكل كتب التفسير تذكرها خاصة أبو حيان وابن كثير - فقام شاعرهم وفاخر بقومه في الحروب والغنائم فدعا رسول الله حسان وقال: (يا حسان أجبه) ، فقام وأجابه على نفس الروي، وافتخر بوجود رسول الله وباتباعه وبنزول القرآن عليهم وبهدايتهم إلى الإسلام، ثم قال: ائذن لخطيبنا، فقام خطيبهم وخطب، وطلب من ثابت بن قيس الذي جاء ذكره سابقاً وهو ثقيل السمع، وكان خطيب رسول الله، فقام فخطب، ثم قال أمير الوفد: والله إن هذا الرجل لمؤتى -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- شاعره إن من شاعرنا، وإن خطيبه لأفصح من خطيبنا وأسلموا، ثم فادوا نصف القوم، وأطلق صلى الله عليه وسلم لهم النصف الآخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>