للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمثلة ومواقف تدل على قوة روابط الإسلام]

وما دمنا تعرضنا إلى هذه الناحية، فإن من قوة روابط بناء الإسلام فإنه لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وكان فيها ما كان عند ماء يقال له: المريسيع، حيث نزل المسلمون وذهب غلمان المهاجرين وغلمان الأنصار يستقون الماء، فتزاحم غلامان وتضاربا، فضرب غلام عمر غلاماً لرجل من الأنصار، فذهبوا إلى ابن أُبي وكان معهم وهو رئيس المنافقين يخفي نفاقه، فقال لهم: ألم أقل لكم من قبل: لا تنفقوا عليهم ولا تسعوهم؟ ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك؛ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة بين المهاجرين والأنصار فشغلهم بالمسير وقت القيلولة، فجاءوا إلى رسول الله يعتذرون عن المشي في هذا الوقت، فقال لهم مقالة ابن أُبي، فجاء ابن أُبي يعتذر بنفسه، ولكن الوحي قد سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:٨] تلك قضية أثارها ابن أُبي، جاء الوحي بمقتضى ما قال، وهو عند الأصوليين: القول باللازم أو بموجب القول، ومعناه: صدقت يا ابن أُبي، صحيح لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولكن لمن العزة؟! قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:٨] .

فلما وصلوا إلى المدينة، فهناك تأتي المعجزة والآية وقوة التلاحم بين أبناء المسلمين، ورابطة الإسلام وأخوة الإيمان، فيأتي عبد الله بن عبد الله بن أُبي ويمسك بزمام ناقة أبيه ويستل سيفه ويقسم بالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

فأي قوة بناء تربط بين أفراد البناء كهذه القوة؟! مع أنهم يقولون: كان هذا الابن من أعظم الناس براً بأبيه، فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروه فليأذن له بالدخول، فدخل بعد إذن رسول الله، وعلم حقاً أن العزة لله ولرسوله.

ثم بعد أيام أشيع عند الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أُبي لمقالته ولإظهار نفاقه، فجاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي وقال: (يا رسول الله بلغني أنك قاتل أبي إن كنت فاعلاً لا محالة فمرني أنا آتيك برأسه، فإني لا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتل مسلماً بكافر فأهلك) .

ولد يقتل أباه! لماذا؟ لأنه ضنين بأن يرى مسلماً قتل أباه فتأتي الحمية فلا يستطيع أن يصبر فيقتله، فلكي لا يقع في هذا المحظور أراد أن تكون مصيبته على يده لئلا يتعدى على أحد بعد ذلك، وكلاهما مصيبتان: قتل أبيه، وكتم غيظه في قلبه.

فأي بناء يكون أقوى من ذلك؟! قد نقول إن هذا موقف شاب، والحماسة قد تأتي في بعض الشباب، ولكن وجدنا العكس في غزوة أحد لما جاء المشركون فخرج من يطلب المبارزة من صفوف المشركين، وممن خرج لطلب المبارزة ولد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يقوم إليه أبوه أبو بكر؛ لكي يعلم المشركون أن لا هوادة بينهم، حتى قال رسول الله: (يا أبا بكر! أبق إلينا نفسك) أي: نحن نضن بك على القتل، وهنا

السؤال

إذا خرج أبو بكر لمبارزة ولده، فهو إما قاتل أو مقتول، إن قتل قتل من؟ ولده، وإن قُتل قتل بيد من؟ بيد ولده، كلاهما مصيبتان مركبتان، لأي شيء ذابت وذهبت رابطة النسب والدم والتراب، وعلت وسمت وقويت رابطة الدين؟

الجواب

لأن هذه الرابطة الإيمانية لم تكن تربط بين بني البشر فقط، بل إنها ربطت بين حملة عرش الرحمن ومؤمني هذه الأمة، بل ربطت بين الإنسان والحيوان، وبين الإنسان والجماد.

فمن روابطها بين حملة العرش والمؤمنين ما جاء في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧] أي: برابطة الإيمان بينهما مع اختلاف الجنس، عالم نوراني في الملائكة، وعالم ترابي في البشر، ولكن الإيمان أنزل أولئك من منزلتهم، ورفع أولئك من موطنهم وارتبطوا برابطة الإيمان: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:٧-٩] .

وهناك: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:٣١] تلك الولاية ظهرت في بدر حينما نزلت الملائكة تقاتل معهم بالفعل.

وهذه الرابطة أيضاً ربطت بين المسلمين وبين الحيوانات، بل الوحش من الحيوان كما جاء في الأثر أن الصحابي الجليل الملقب بـ سفينة، وكان عائداً من غزوته فوجد الأسد في الطريق حاجزاً الناس، ولم يستطيعوا أن يمروا، فتقدم إليه وواجهه وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، أمرتك أن تجوز عن الطريق، فاجتاز عن الطريق بقدر ما يمروا ومر الناس جميعاً.

ماذا يدرك الأسد من سفينة؟ وما هي الرابطة بينه وبين رسول الله؟ الإيمان، تلك الرابطة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي، فـ سلمان ليس عربياً، لا هاشمياً ولا قرشياً ولا تميمياً ولا ولا إلى آخره، بل هو رجل فارسي يأتي إلى المدينة قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرج من بلده فارس لما رأى فيه من فساد علماء بلده، وكان أبوه يوقد النار ويشرف عليها، وعلم أن نبي آخر الزمن سيبعث في أرض الجزيرة، فجاء وأُخذ وبيع، حتى وصل إلى المدينة.

ومن موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً قال: الآن سأعرف، وكان يعمل في بستان رجل يهودي، فجاء برطب وقال: (يا محمد! هذه صدقة مني عليك، قال: إني لا آكل الصدقة، وقدمها لمن معه) فقال سلمان: هذه واحدة، ثم رجع من الغد وقال: (يا محمد! هذا هدية مني إليك، فأخذها وأكل) فقال: هذه ثانية، ثم لما أراد أن يذهب ناداه تعال: -انظر إلى الثالثة- وكشف له ما بين كتفيه، فنظر إلى خاتم النبوة فقبله، وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أنك رسول الله.

فإن الله أعلم رسوله بأن سلمان يعلم من علامات النبوة ثلاثاً: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما رأى سلمان الأولى والثانية أخبره رسول الله بالثالثة قبل أن يتكلم بها سلمان، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو أن الإيمان في الثريا لناله رجال من فارس) .

ولما كانت غزوة الخندق في السنة الرابعة من الهجرة قسم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى لوائين: لواء للمهاجرين، ولواء للأنصار، فلما جاءوا إلى سلمان اختصموا فيه، المهاجرون يقولون: هو معنا؛ لأنه هاجر إلى المدينة كما هاجرنا، والأنصار يقولون: هو معنا؛ لأنه كان موجوداً بالمدينة قبل أن يأتي رسول الله، فلما اختصموا فيه قطع الخصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا آل البيت) فأي شرف هذا؟ ولذا قال سلمان: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وماذا يريد بقيس أو تميم أو غيرهم بعد أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت) ما الذي ربط سلمان الفارسي بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلى نسب في العرب؟ الإسلام.