للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[متى يقتضي النهي فساد العقد، ومتى لا يقتضيه؟]

إذا كان النهي موجهاً لذات المنهي عنه فهو باطل فاسد بإجماع المسلمين، فمن باع خمراً أو اشتراها فالعقد باطل، ومن باع ميتة أو اشتراها فالبيع باطل، ومن باع خنزيراً أو اشتراه فالبيع باطل، ومن باع ملك غيره مما لا يملكه فالبيع باطل، ولكن إذا اشترى وباع وقت النداء يوم الجمعة ففيه خلاف، وإذا باع ملك الغير فهل النهي لكونه حيواناً أو ثوباً أو لكونه اعتداء على ملك الغير؟ لكونه اعتداء على ملك الغير، والغير خارج عن صلب العقد، ولو أن الغير وافق وأمضى هذا البيع، فمن العلماء من يقول: يصح البيع ويمضي بالعقد الأول؛ لأن المالك قد أجاز.

من عقد عقداً وقت النداء إلى الجمعة، فالنهي لا لذات المعقود عليه، ولكن لأمر خارج عنه، فمن العلماء -ومنهم الحنابلة- من يلحق المنهي عنه لوصف خارج عنه بما نهي عنه لذاته، ولذا عندهم لو اغتصب سكيناً وذبح بها شاة، فالشاة ميتة؛ لأنه منهي عن غصب السكين، والجمهور يقولون: لا، ذبيحة الشاة حلال، وهذا مغتصب السكين، فحق الغصب لصاحب السكين، وهذا آثم لاغتصابه سكيناً، أما الشاة فقد أريق دمها بالسكين، وكل ما أنهر الدم وقطع الودجين فهو حلال.

وكذلك هناك من يقول: العقد صحيح ولكنه آثم؛ لأنه انشغل به عن صلاة الجمعة، ولذا لو أن هذا العقد بعينه أمضاه امرأتان أو صبي وامرأة، فالعقد صحيح؛ لأن المرأة والصبي ليس عليهما جمعة.

إذاً: ننظر في كل العقود، إن كان العقد منهياً عنه لذاته فهو باطل وحرام ولا يفيد التملك، وإن كان لوصف خارج عنه أو لازم له ففيه خلاف بين الأصوليين؛ فمنهم من يجعله كالمتوجه لذاته فهو باطل عندهم، ومنهم من يقول: جانب العقد يمضي، وجانب الاعتداء يأثم عليه، وتقدم في أصول الفقه حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، فالمسلم منهي عن الغصب، ومأمور بالصلاة، فهل الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة أو باطلة؟ عند الحنابلة أن صلاته باطلة؛ لأنه بصلاته يثاب، وباغتصابه يعاقب، فكيف يثاب ويعاقب على فعل واحد؟! ولكن غيرهم يقولون: هو غاصب وآثم سواء نام أو لعب أو جلس، وليس الغصب موقوفاً على الصلاة، وهو مطالب بالصلاة سواء في أرض مملوكة له أو حرة أو مغصوبة، فالصلاة في طريقها تسقط الفرض عنه، والغصب في طريقه يحاسب ويعاقب عليه.

ويقولون بانفكاك الجهة، فإذا كان النهي منفك الجهة عن المنهي عنه، فالعقد صحيح وهو آثم، وإن كانت الجهة غير منفكة عنه فهو باطل ولا ينفذ فيه أو لا ينتج نتيجة التعاقد، وهذا الباب من أدق الأمور في الأصول، فحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، فإن كان عقداً لا يفيد التمليك، وإن كان عبادة لا تسقط الواجب، ولا تقبل، وترد على صاحبها.

فإذا كان المحدث الأول الذي جاء بالحدث والبدعة، وأخذها الناس عنه، عمله رد عليه، فما حكم من تابعه عليها؟ إن الذي يأتي بعد المحدث الأول يقول: أنا ما أحدثت، وهذا موجود من قبل.

فماذا نقول له؟ نقول: أنت ومن أحدثها في اللحظة الأولى سواء؛ لأن عملك الآن ليس من أمرنا فهو رد أيضاً، وكل من ادعى تقليداً لغيره فيما ليس من أمر الدين، فيقال له: أنت ومن قلدته عملكما مردود؛ لأنه إحداث في أمرنا لما ليس منه.

وعلى ذلك فمن أحدث في أمرنا ما كان منه فليس بمردود، كإحداث تدوين القرآن في صحف، وكإحداث جمع المصلين في رمضان على إمام واحد، وكإحداث تدوين العلوم والكتب والفنون التي تخدم المصلحة العامة، سواء كان ديناً أو دنيا، وكذلك كل ما فيه مصلحة المسلمين من تدوين الدواوين وبناء المدارس التي تملأ العالم الآن، والمعاهد، والكليات، وإحداث العلوم التي تدرس فيها لمصلحة الإنسان، فهل هذه من أمرنا أو خارجة عن أمرنا؟ كلها داخلة في أمرنا.

أما إذا درس شيئاً يخالف الدين، فنقول: هذا حدث ليس من أمرنا.

إذاً: ما أحدث وكان من أمرنا فليس مردوداً بل هو مقبول، وبالله تعالى التوفيق.