للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام تفسير القرآن]

يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء: ١- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي.

٢- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:٣١] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر: فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل.

ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال: فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب.

٣- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥] ، وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:١٤] ، وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:٢٣٣] ، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنها عثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه.

٤- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧] ، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧] ، وقيل: الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧] .

العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله) : الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢] ، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:١٥] ، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:١٥] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩] ، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله.

إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.