للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم]

(ولرسوله) صلى الله عليه وسلم في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأينا النماذج من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنهم كانوا يفدونه بأنفسهم وبأموالهم وبأولادهم وبالعالم كله، فامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومحبته في قلوبهم، ما هو إلا من شدة نصحهم له.

ونحن نعلم قضية خبيب بن عدي حينما أخذ أسيراً، ولما أرادوا أن يقتلوه أخرجوه إلى الحل وقالوا له: (هلم يا خبيب! أتود أن يكون محمد مكانك هنا ونخلي سبيلك) السيف مصلت على عنقه ويقولون: تمنَّ فقط، (أتتمنى أن يكون محمد -الذي هو سبب أخذك وأسرك- محلك هنا، تضرب عنقه وتسلم أنت، ونخلي سبيلك فماذا كان جوابه؟ لم يبال بسيوفهم ولم يبال بجمعهم ولم يبال بالحياة كلها بل قال: لا والله لا أرضى له ذلك، بل ولا أن يُشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة.

فما الدافع لقوله هذا؟ الدافع هو شدة النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا امتثال الأوامر فيما ينفذه العبد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكثيرة هي تلك النماذج في ذلك، ومنها أيضاً: موقف علي رضي الله تعالى عنه لما نام في فراش النبي وهو خارج للهجرة، أيضاً كان سببه النصح لله ولرسوله.

وأبو بكر حينما مشى يوم الهجرة تارةً أمامه وتارةً خلفه، ولما قال له: (انتظر يا رسول الله! حتى أستبرئ لك الغار) ، كل ذلك من باب النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

والسنة كلها وتاريخ سلف الأمة من أصحاب رسول الله ومن بعدهم؛ يوضح جلياً مدى نصحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتقدم لنا بأن التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر من النصح لله ولرسوله، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:٥٩] فالرد إلى الله رد إلى كتاب الله دائماً وأبداً، والرد إلى رسول الله في حياته إلى شخصه صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته بعد مماته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وكذلك الآن، من النصح لرسول الله في شخصيته صلوات الله وسلامه عليه النصح لسنته من بعده؛ لأنه قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) .

فمن النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصح للسنة بنصرتها، وتدوينها، وحفظها، وبيانها، وعلم المصطلح الذي يبين صحيح الأحاديث من حسنها من ضعيفها، ومباحث الرجال وكل ما دون في علم الرجال وما يتعلق ببيان حال الرواة؛ فهذا الرجل ثقة نقبل حديثه، وذاك ضعيف نتوثق ونبحث له عن مستند وشواهد، وهذا كذاب، وهذا منكر الحديث، كل ذلك نصح للسنة، حتى لا نجمع بين الغث والسمين، ونتبين حقيقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هؤلاء الرجال الأعلام أيدهم الله لإخلاصهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصحاً لله ولرسوله، فبينوا لنا الصحيح من السقيم، والمقبول من المرفوض في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم يأتي بعد هذا العمل كان يأتيك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -آمراً إياك بأمر ما- ونفسك فيها شيء، وأنت بين أحد أمرين: · تنصح لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنصرها وتعمل بها وتترك رغبات نفسك؟! · أو تترك السنة وتأخذ رغبات نفسك؟! هنا يأتي النصح.

وكما سيأتي في باب الإجارات من حديث جابر رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى أهل العالية قال: (جئتكم بأمر نهى عنه صلى الله عليه وسلم، كان لكم فيه خير؛ ولكن طاعة رسول الله خير لكم.

نهى صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض بما يكون على رءوس الجداول والماذيانات) ؛ لأنهم كانوا يؤجرون الأرض على قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم بين للذي يزرعها.

يقول صاحب الأرض: الذي يطلع على القنوات والذي في رأس الجدول أو رأس الحوض هذا لي، والباقي في أرض الحوض هذا لك أيها الزارع.

فقد يصح هذا ويموت ذاك أو يضعف، فيحصل عندها الغبن، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من التأجير وقال: (بذهب أو فضة أو جزء مشاع مما يخرج من الجميع) .

أخرجت -مثلاً- عشرة أوسق فيعطي صاحبها النصف أو الثلث أو الربع -بعد أن يُجمع (الماذيانات) ورءوس الجداول وأوساط الجداول، بنسبة مئوية مطّردة، فقال: (نهى عن أمر كان لكم فيه خير -أي: مصلحة- ولكن طاعة رسول الله خير لكم) .

هناك في آية أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] يا سبحان الله! هنا والله تتجسد حقيقة الإيمان، وهنا يظهر المقياس الحقيقي للإيمان.

فـ زينب بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن حارثة، ومن زيد بن حارثة؟ كان زيد قد أخذ أسيراً، فاشتراه حكيم بن حزام ثم أهداه إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه، فجاء أبوه وعمه بالفداء، وقال: (يا محمد! بلغنا أن ابننا زيداً عندك، وهذا فداؤه، قال: هل لك بخير من ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأسأله إن كان يريدكم أخذتموه بغير فداء، وإن كان يريدني فما أنا بمفادٍ شخصاً يريدني.

قالوا: والله لقد أنصفتنا.

قال: تعال يا زيد! أتعرف الرجلين؟ قال: نعم.

هذا أبي، وهذا عمي.

قال: جاءوا بفدائك وأخبرتهم إن أردت أهلك فاذهب معهم بدون فداء، وإن اخترتني فما أنا بمستغنٍ عنك.

ماذا قال زيد؟ قال: والله! لا أختار أحداً عليك أبداً.

وهذا قبل أن يكون رسولاً، لما رآه من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.

قال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على الحرية؟ قال: وما لي لا أختاره؟! والله! ما قال لي لشيء فعلتُه قط: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله؟) .

إن الإنسان لا يصبر على هذا مع ولده، بل حتى على نفسه أحياناً، فقد يتضايق لأنه فعل هذا، ولم يفعل ذاك أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤنب خادمه على عدم فعله لأمر فضلاً عن أن يعاقبه.

بعض العلماء يبتلى بأن يكون له بعض الأولاد سيئي الأخلاق، فيقال له: يا أخي! أنت عالم وفاضل وهذا ولدك كذا لماذا لم تؤدبه؟ قال: لا أفسد أخلاقي بإصلاح أخلاق غيري.

قلت: إن هذا فيه تقصير؛ ولكن إلى هذا الحد بلغ به الخوف من أن تفسد أخلاقه؛ لأنه لو أخذ يعنف ويصيح ويعمل، فهذه صورة قد يأباها بعض الناس، ويكون بذلك يفسد أخلاقه من أجل أن يصلح غيره.

الذي يهمنا بأن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم عظيمة من قبل البعثة؛ لأنه كان في عهدة ربه، يتعهده من قبل أن يولد، وصانه من السفاح وو، ولما كان رضيعاً شُق صدره، وأُخذ حظ الشيطان منه، إلى آخره.

ولما رضي زيد واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته رأى النبي أن يكافئه على ذلك كما جاء في الحديث: (فأخذه وطاف به حول الكعبة، وقال: أشهدكم يا معشر قريش! أن زيداً ابني) يعني: زيد ابنه بالتبني، وكان التبني قاعدة معروفة عند العرب، من تبنى أحداً كان بمثابة ولده لصلبه، يرث عنه ويرثه ويعقل عنه، كأنه واحد منهم وكفى.

وعلى هذا فإذا تزوج الابن بالتبني من امرأة صارت حليلته، وحليلة الولد لا تُنكح، فأراد الله أن يبطل التبني، ويبطل حرمة زوجة الابن على جهة التبني؛ ولكن ذلك كان درساً شديداً، فقد أبطل الله هذا التبني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيمن تبناه، وفي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فيأتي رسول الله ويخطب زينب لـ زيد بن الحارثة، فنريد أن نبين في معرض هذه القصة أن المؤمنين يسلبون الخيرة من أمرهم.

لكن وهذه القضية ليست عادية، فليس الأمر متعلقاً بثوب يلبسه ويخلعه، أو طعام يأكله وينتهي منه، أو بيت يسكنه ويخرج منه، لا.

بل هي قضية لها أبعاد بعيدة جداً في ذلك المجتمع: فـ زينب القرشية تعد في الذروة من حيث النسب، وزيد -مهما كان أصله- قد جرى عليه الرق، فهل هناك تقارب وتكافؤ في النسب بين زيد وزينب؟ ليس هناك تقارب إلا في حرف الزاي والياء فقط؛ لكن من ناحية النسب فهما بعيدين جداً.

فـ زيد جرى عليه رق، وزينب في القمة من النسب.

فكيف تواجه زينب المجتمع؟! كيف ترضى أن تتزوج برجل جرى عليه رق وهي في القمة من قريش؟! فهذه زيجة وعشرة وفراش ومعاشرة، فماذا سيقول الناس؟! وقد أجبرت على الزواج بشخص لا رغبة لها فيه، فـ زينب كانت تواجه المشكلة من جانبين: · جانب مواجهة المجتمع للفارق البعيد بينهما، إذ ليس هناك تكافؤ بينهما.

· وزينب تواجه أيضاً إباء في شخصيتها، أن تكون فراشاً لمولىً سبق عليه الرق، وأخوها يأبى ذلك.

ولكن ينزل قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] .

إذاً: الخيرة لمن؟ لله سبحانه وتعالى.

أليس الخلق كلهم عبيداً لله؟! هل يُمنع الخالق من أن يتصرف في خلقه؟! إذاً: من حق المولى سبحانه أن يحكم بما يريد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:١] .

إذاً: حكم الله مقدم على رغبات الناس، وعلى اختياراتهم، ولذا جاء الحديث: (والله! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) هواه ورغباته تكون تبعاً لما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لا أن تكون السنة والكتاب تبعاً لأهواء الناس، وكل يجرها إلى حيث شاء، بل الأهواء