للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[متى يكون الجهاد فرض عين؟]

إذاً: الفرض الكفائي يقوم به الجيش النظامي اليوم، ولكن قد يرتقي هذا الفرض الكفائي إلى فرض عين، ومعنى فرض عين: يجب على كل فرد، ويكون ذلك في حالتين فقط: الحالة الأولى: إذا لم يكن الجيش النظامي يكفي لصد العدو، واستنفر الإمام القوة الشعبية.

إذاً: يكون الجهاد فرضاً عينياً حينما يستنفر الإمام الأمة، حينما تقل إمكانيات الجيش النظامي، بقلة عدده أو بكثرة عدوه، ويحتاج إلى مساعدة، وليعلم الجميع بأن القتال ليس مجرد سلاح وإراقة دم العدو، بل أسلحة القتال متعددة: قد تكون بالكلمة كما جاء عن حسان رضي الله تعالى عنه حينما تكلم عن المشركين، فقال له صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوهم وأنا منهم؟ قال: أسلك كما تسل الشعرة من العجين، فأخذ يهجو المشركين ويثبط أمرهم، ويعلي من شأن المسلمين، حتى نصب له رسول الله كرسياً في هذا المسجد وقال: اهجهم وروح القدس يؤيدك) .

قد تكون المساهمة في الحرب بكلمة في الإذاعة، وقد تكون بكلمة في صحيفة، وقد تكون بأي نوع من الأنواع ولذا قال العسكريون الجدد: إن كل جندي في الميدان يتبعه سبعة جنود خارج الميدان، فالذي يزرع ويحصد ويقدم الحب لمخابز الجيش ليمون الجنود، جندي أم لا؟ الذي يجز الصوف ويقدم الغزل للمصنع لينسج البطانية للجندي ليتغطى بها، أو البدلة أو الحذاء ليلبسها، جندي أم لا؟ العامل الذي في مصانع الذخيرة، الذي يعد الذخيرة للجندي ليرمي بها، (إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: الذي يريشه، والذي يناوله، والذي يرمي به) وبعض المدافع تحتاج إلى ثلاثة أشخاص، وبعضها إلى أربعة، فليس المقاتل هو الذي يقذف بالقذيفة فحسب، بل الذي يقدمها إليه، والذي يعبد الطريق للآليات، والذي يمد الأسلاك للاتصالات، والذي يهيئ الماء ليشربوا، كل أولئك جنود يعملون في المعارك، ولكنهم جنود خلف الصفوف، ولذا قال العلماء: الزراعة والصناعة والتعليم فرض كفائي؛ لأن الأمة لا تستغني عنها، ويقول النووي رحمه الله تعالى في المقدمة: (إن تعلم الصناعات فرض على الأمة) فرض كفائي حتى الإبرة، ارجعوا إلى مقدمة المجموع للنووي.

ويقول: إذا قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة فهي محتاجة إلى عدوها يتحكم فيها بقدر حاجة الإبرة.

ولو لم يكن عندنا إبر لصرنا عراة، لا نستطيع أن نخيط ثوباً.

إذاً: جعل العلماء الزراعة والصناعة من باب الجهاد أيضاً.

الحالة الثانية: إذا -لا قدر الله- دوهمت البلدة أو القرية التي أنت فيها من العدو، وجب على الصغير والكبير، ولا يُستأذن في ذلك أحد، حتى الولد لا يستأذن أبويه، ويخرج الرجال والنساء يدافعون عن قريتهم وعن أعراضهم وأموالهم، أما ما عدا ذلك وفي المرحلة الأولى: الفرض الكفائي، لو أراد إنسان أن يتطوع، هل أحد يمنع المتطوعين؟ لا، ولكن حينما يريد شخص الجهاد في سبيل الله في حال كونه فرض كفاية يكون بين أمرين: بين فرض كفاية وهو الجهاد، وبين فرض عين وهو طاعة وبر الوالدين، فيقدم فرض العين هنا على فرض الكفاية، وجهاده في بر الوالدين.

إذاً: حينما يكون القتال في المرحلة الأولى وهو: الفرض الكفائي، وأراد إنسان أن يتطوع، ويذهب للجهاد في سبيل الله، فلينظر: هل هذا التطوع يضيع واجباً عليه كفائياً أو عينياً، أم لا؟ إنسان عنده زوجة وأولاد، حقوق الزوجة والأولاد فرض كفائي، أو فرض عيني؟ فرض عيني، هل يترك زوجته، وأولاده في ضياع، ويقول: أذهب أقاتل في سبيل الله! لا والله، ولا ننسى الرجل الذي جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال: (جئت لأقاتل معك في سبيل الله) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: اذهب ففيهما فجاهد) لماذا؟ لأن قتاله مع رسول الله تطوع، والجهاد في بر أبويه واجب، فلا نهدم واجباً من أجل تطوع، والعاقل لا يهدم مصراً ليقيم قصراً.

والرواية الأخرى: (نعم، تركتهما يبكيان على خروجي، قال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) .

وأعرف أنا قد نكون أطلنا في هذا الموقف، ولكن لضرورة الحال؛ لأننا سمعنا من سنوات عديدة من شباب ناشئ متحمس قد يغرر عليه، ويذهب ليقاتل في سبيل الله تاركاً أبويه تاركاً دراسته تاركاً أهله، كل ذلك بدافع الحماس، يغرر عليه عندما يقرأ لأشخاص مجهولين يقولون: القتال فرض عين على كل مسلم، وهذا لم يقله عالم مسلم قط، بل إن أهل أفغانستان يقولون: نحن في حاجة إلى المال والسلاح أكثر من الرجال، والواقع يصدق ذلك؛ لأنه كما قلنا: يذهب الواحد إلى بلد لا يعرف تضاريسه، ولا يقوى على تحمل طبيعته، فيحتاج إلى مران عسكري يجابه به تلك الحالة، فيكون عندها عالة عليهم حتى يتدرب.

أقول لأمثال أولئك: إنك إذا أردت مساعدة المجاهدين، فإنه لابد أن يكون وراء الجندي في الميدان سبعة جنود، فاعمل واكتسب وتبرع وأرسل إليهم قيمة السلاح، أو قيمة اللباس، أو قيمة الدواء، أو قيمة الطعام، ويكون ذلك جهاداً، ولذا فقد قسم صلى الله عليه وسلم أجر الجهاد بين اثنين: (من خلف غازياً في أهله بخير كُتب له نصف أجره، ومن جهز غازياً في سبيل الله، كان له مثل أجره) لأي شيء له مثل أجره؟ بتجهيزه؛ لأن التجهيز نوع من الجهاد.