للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسئلة الصحابة المذكورة في السنة]

كانت الأسئلة التي سأل عنها صدر هذه الأمة أسئلة فقهية واستيضاحية وتعليمية، فتعلموا بالأسئلة، أما الأشياء التي لا جدوى من السؤال عنها فكانوا يجتنبون الخوض فيها امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:١٠١] ، ولم يسألوا عن شيء لم يقع، فلم يسألوا إلا في الواقع، ولكن هل هناك مانع من السؤال عما وقوعه محتمل؟ لا مانع إذا كانت المسألة محتملة الوقوع، ومثال ذلك لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستبتلى بأمراء جور وفساد (قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) .

مثال آخر: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل هدياً إلى الكعبة وهو في المدينة، فسأله سائق الهدي لما أراد أن يتوجه إلى مكة فقال: (يا رسول الله! لو عطب الهدي ماذا أفعل به؟) هل نهاه عن سؤاله وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم) ؟ لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأن عطب هدي في طريق طويل من المدينة إلى مكة محتمل، وهذا من فقه صاحب الهدي، فأجاب بقوله: (انحره واغمس قلادته في دمه، وخل بينه وبين الناس) .

مثال ثالث: في غزوة خيبر أرسل صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله تعالى عنه ليعطيه الراية، وكان قد قال في اليوم السابق: (لأعطين الراية غداً) إلى آخره، فلما حمل الراية قال له: (انفذ على رسلك، ولا تلتفت، وقاتلهم) فمشى علي قليلاً ثم وقف، ولم يلتفت، ونادى بصوت عالٍ: (يا رسول الله! علام أقاتل القوم؟ قال: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فسأل ليتبين، فالسؤال الذي يكون عن معرفة واستفسار حسن، أما التعنت واللجاج في المسألة -حتى ولو كان حقاً- فهو منهي عنه، وتتضح كراهة ذلك في مسألة وقعت للصحابة رضي الله عنها، فإنهم اجتمعوا رضي الله تعالى عنهم وسألوا رسول الله عن ليلة القدر، ودخل البيت، فتلاحى رجلان منهم، وكانوا يريدون أن يعلموا بليلة القدر، والسؤال عنها مطلوب، ومعرفتها بغية كل إنسان، لكن رفع علمها لما حصلت الملاحاة -ولو كانت في الحق-، فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أردت أن أنبئكم فتلاحى رجلان؛ فرفعت) أي: رفع تعيينها.

ومن هنا يقول العلماء: لا ينبغي لطلبة العلم الملاحاة في المسائل الفقهية ولو كانت حقاً، يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: (إن من تتبع شواذ المسائل حرم نور العلم) ، ويقول عمر بن عبد العزيز - كما نقله عنه ابن عبد البر -: (من أراد الله حرمانه من العلم شغله بشواذ المسائل) ، وعمر رضي الله تعالى عنه يقول: (أحرج على كل مسلم أن يحدث بحديث ليس عليه العمل) ، ومالك لما أراد هارون الرشيد أن يعلق الموطأ على الكعبة، ويحمل المسلمين جميعاً عليه قال: (لا تفعل؛ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونقلوا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كل بما وصل إليه، فلا تغير على الناس) ، والإسكندري جلس عنده طلابه فتلاحوا عنده فقال: (درنت قلوبكم! قوموا إلى خالد بن حماد فاجلوا قلوبكم عنده، وتعلموا منه الرغائب ونوافل العبادات؛ فإنها ترقق القلب، وتورث المحبة، وتبعد الضغينة) .

ويقولون: إن المناقشة في العلم -ولو في الحق- قد تؤدي إلى التعالي والحرص على حظ النفس، وكل يريد أن ينتصر لنفسه، فتقع الفرقة والشحناء.

إذاً: السؤال إن كان للاستفتاء فلا بأس بذلك، أما أن يكون للمناقشة والجدال والتعالي فهذا هو الذي يفرق بين المسلمين، ولقد أدى تعصب بعض أتباع المذاهب إلى تسابهم وتخاصمهم وتهاجرهم، كما دوّن ذلك بعض المتأخرين، ولك أن تعجب من سؤال يتردد عند بعضهم: هل يجوز أن يتزوج شافعي بحنفية؟! إلى هذا الحد! مع أن الأئمة رضوان الله عليهم جميعاً ليسوا متعصبين، قالوا لـ أحمد: أتصلي خلف الشافعي وهو لا يتوضأ من لحم الإبل؟ قال: وماذا تراني؟! أأمتنع من الصلاة خلف مالك وخلف أبي ثور وخلف فلان وفلان؟! يعني: إذا اختلفنا في رأي أو في مسألة هل يكون ذلك سبباً لفرقتنا؟! لا.

والله!