للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل الأمر في هذا الحديث للاستحباب أم للوجوب؟]

هل الأمر بترك ما يريب على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب؟ المتأمل في أحاديث هذه الأربعين النووية المباركة، يجد حديثين سوى هذا في هذا الباب، تقدم حديث: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) ، إذاً: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والشبه تورث الريبة، فمن وقع في المشتبهات جره ذلك إلى الحرام، ومن ترك الشبهات كانت حمىً وحاجزاً ووقاية له عن الوصول إلى منطقة الحرام، فحديث: (دع ما يريبك) للتوجيه، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء، والحديث الثالث هو الحديث السابع والعشرون من هذه المجموعة، وهو حديث: (جئت تسأل عن البر؟ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فالأمر المريب هو: الذي أحسست فيه بالإثم، وأحسست بأنه يحوك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس، فهذه الأحاديث الثلاثة في هذا الموضوع تبين بمجموعها منهج الورع في الإسلام حقاً.

وصور ترك الريبة في الإسلام كثيرة، ويذكر العلماء أموراً يجب على كل مسلم أن ينظر إليها، وأن يقف عندها، فترك الريبة استبراء للدين والعرض، وإذا نظرنا إلى الحديث السابق عرفنا مدى أثر هذا الحديث وتأثيره في حياة المسلم، ففي الحديث العاشر الذي قبل هذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:٥١] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:١٧٢] ) ، فأمر الرسل وأمر المؤمنين بالأكل من الطيبات، وعمل الصالحات، والحلال الطيب هو: الذي لا شبهة ولا ريبة فيه، ولذا ذكر بعده: (الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) .

وذكر الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر؛ لأن المسافر تستجاب دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة تستجاب دعوتهم: الصائم، والمسافر، والمظلوم) ، فالمسافر من ضمن الثلاثة الذين تستجاب دعوتهم، وهذا الرجل مع كونه ممن تستجاب دعوته ولكن لا يستجاب له، لوجود المانع القائم، ألا وهو أنه يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويلبس الحرام، وغذي بالحرام، فتناول الحرام مانع من استجابة الدعاء.

وكيف تتجنب الحرام؟ أتى النووي بهذا الحديث هنا ليبين بأن من كمال تجنب الحرام حتى تستجاب الدعوة أن تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وكأنه يقول: لا يتم اجتناب الحرام ولا يتم اكتمال الحلال إلا بترك ما فيه ريبة.

ولذا يقولون: الورع هو: أن تترك مالا بأس به خشية مما فيه بأس، تترك الشيء الذي لا بأس فيه ولا شبهة فيه مخافة أن تقع فيما فيه بأس، فمن سد الذرائع: ترك المباح مخافة من الوقوع فيما ليس بمباح، وهذا هو الورع، فكل ما يحيك في صدر الإنسان فهو شبهة فليتركه.