للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإحسان من الكمالات التي دعا إليها الإسلام]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم.

إن هذا الحديث لهو القمة في التوجيه النبوي الكريم، وفي بيان حكم ومحاسن الإسلام في كل شيء، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .

والمتأمل في كتاب الله يجد الثناء العاطر على أهل الإحسان، وحديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، وجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل جلسة، وسأله عن الإسلام، والإيمان، وعن اليوم الآخر، ومما سأله عن الإحسان، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أجابة شاملة فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) بأي شيء؟ بكل العبادات، على أية حالة؟ فالإحسان هو: مراقبة الله في كل حال.

وإذا جئنا إلى منطوق الحديث النبوي الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، فيقول العلماء: هل هذا من قبيل الإنشاء أم من قبيل الإخبار؟ أي: هل هذه الجملة إنشائية أم خبرية؟ ومعنى خبرية أو إنشائية أي: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله أنه فعلاً كتب الإحسان على كل شيء وأوقع الإحسان في كل شيء؟ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:٥٤] .

فالله خلق كل شيء على أحسن ما يكون، وعلينا أن نحسن أعمالنا، وانظر في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:٧] أحسن كل شيء خلْقه أو خلَقه، بالمصدر أو بالفعل الماضي.

ولذا قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:٢-٣] .

وقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:١-٤] .

فإن كان الحديث يراد به الإخبار فإن الله قد أحسن كل شيء، ولا شك في ذلك، فهاهو العالم علويه وسفليه يسير في نظام دقيق من أبدع ما يكون كما نحس ونشاهد: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠] .

يقول علماء الفلك: لو أن الشمس اختل ميزانها ودنت من الأرض دقيقة ضوئية لأحرقت العالم، ولو ارتفعت عن الأرض دقيقة ضوئية لتجمد العالم من الثلج.

إذاً: قوله: (إن الله كتب الإحسان ... ) يمكن أن يكون على سبيل الإخبار.

وإن كان على سبيل الإنشاء: أي: يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن ننفذ ما كتب الله، (وكتب) بمعنى: حكم وقضى وأمر: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٨٣] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص} [البقرة:١٧٨] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:١٨٠] ، و (كتب) بمعنى فرض وأوجب، والذي يليق بالمسلم أن يكون كل ما يصدر عنه حسناً، سواء في صناعة أو في تجارة، أو في أي معاملة كانت، بل ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يحفرون قبراً، فنظر إليه فرأى فيه اعوجاجاً، فأوصى بتسوية القبر، فقالوا: إنه ليهودي.

قال: ألستم مسلمين؟!) أي: عليكم أنتم أن تحسنوا العمل؛ لأن العمل ينظر فيه إلى من صدر عنه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ؛ لأنك إذا خنت من خانك صرت أنت وهو في الخيانة سواء، ولذا قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:٣٤] ؛ لأنك إن قابلت السيئة بسيئة مثلها كنت معه في الإساءة سواء.

ولذا يأتي الإسلام بالتسامي في مكارم الأخلاق، فيقول الله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤] ، ويقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:١٢٦] ؟ يربطه بالسبب، ويقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧] النتيجة معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨] .

إذاً: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ولو أن الناس طبقوا هذا الحديث بالعموم والشمول المطلوب لاستغنينا عن القضاء والشرطة، وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لو طبق هذا الحديث عملياً لأقفلت المحاكم، وسرح الشرط، وهدمت السجون؛ لأن كل إنسان سيعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، ووجدنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ مع الشاب الذي جاء وأسلم، واستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، فلما سمع هذا الصحابة هموا به، فقال عليه الصلاة والسلام: اتركوه، وقال له: ادن، فلما دنا، قال له: (أترضى ذلك لأختك؟ قال: لا، قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لبنتك؟ قال: لا.

قال: فكذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم) فخرج وما على وجه الأرض أكره إليه من الزنا.

وهنا لو أن المسلمين طبقوا حديث الإحسان في كل شيء لاستغنينا عن القضاء، والشرطة، والمفتشين، والمراقبين، وكان كل إنسان على جادة الإحسان، إن كان صانعاً وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان) ؟ أو كان عاملاً في أي مهنة وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث، وإذا تذكر أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، وعمل بالحديثين معاً سيحب لعملائه ما يحبه لنفسه وسيحسن عمله، وهكذا إذا جئنا للمزارع في زراعته، وللمهندس في ورشته، وكل ما فيه تخطيط وتنسيق داخل تحت هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، تأتي بالعامل وتتركه يعمل لوحده بدون مراقبة؛ لأنه يعلم أن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويعلم أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبذلك يستيقظ الضمير في نفوس البشر فلا تجد حقداً ولا حسداً، ولا غشاً، ولا سرقة، ولا تدليساً، ولا شيئاً مما تحاربه الحكومات بمبادئ الإسلام، واعتقد أن هذا الحديث يخاطب طلبة العلم في دراساتهم، وفي تنظيم أوقاتهم وكتبهم، وربما تدخل بيت الإنسان فتجد الكتب مبعثرة فينبغي أن يرتبها، وينسقها، كما جاء عن زيد بن ثابت، الصحابي الجليل الذي جمع القرآن، قالوا: كان في بيته مع أهله كالطفل، ومع الناس في مقابلتهم ومعاملتهم أدق ما يكون وأظرف ما يكون وأجمل ما يكون، ومصعب بن عمير كان فتى مكة في شبابه وجماله، وكان أعطر أهل مكة.

إذاً: طالب العلم يكون عليه الإحسان في ذاته ويكون بقدر استطاعته أنموذجاً، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ويقال: إن مالكاً رحمه الله كان يبيع خشب البيت في ثيابه وأكل اللحم، ولما جاء إليه هارون الرشيد ليسمع الموطأ نزل في بيت الإمارة، وأرسل إليه: هلم بكتابك لتقرأه علينا.

فرد عليه مالك رحمه الله وقال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون إلى بيته فتأخر عليه، فلما أذن له بالدخول قال: ما هذا يا مالك! طلبناك إلينا فامتنعت علينا، وجئنا إلى بيتك فحبستنا على بابك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن مجيء الملوك إلى العلماء يعلي قدرهم، ومجيء العلماء إلى الملوك يزري بقدرهم، فعلمت أنك لم تأت لمال ولا لدنيا، إنما جئت لتسمع حديث رسول الله، فتهيأت لحديث رسول الله، واغتسلت وتطيبت ولبست أحسن ما عندي.

فعمله هذا كان من قبيل التكريم للحديث، وكان رحمه الله يكره أن يسأل في الشارع، ويقول: هذه إهانة لحديث رسول الله!.

فعلى طالب العلم أن يكون محسناً في ذاته ودراسته، فيرتب أوقاته مع دروسه، فإن كانت دروساً نظامية فعلى الجدول، وإن كانت غير نظامية فحسب الأولوية، وهكذا العامل في عمله يرتب أدواته، وكل ما يترتب عليه حياة الإنسان يدخل تحت الإحسان.

فصاحب الحديقة والبستان إذا أراد أن ينشئ حديقة جديدة، فينبغي أن يرتبها بأبعاد متساوية وبقدر ما تسع من الشجر، ويحسن في كل شيء: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .

ثم يأتي الحديث في تتمته على سبيل المثال، ويأتي إلى القمة التي لا يتصور إنسان أنها محل إحسان، فإذا تفريع جزئيات: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ومن كل شيء تلك الجزئية: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، ثم بين بم تكون الذبحة حسنة؟.